مولد وصاحبه غايب : تأملات في الخرافة العربية والجهل المقدس ..

Author Icon ابتهال عبد الوهاب

أكتوبر 17, 2025

في كل زمن يتراجع فيه العقل، تنبت الخرافة كالعشب في أرض هجرتها الشمس وحين يغيب الفكر النقدي، تتسلل الخزعبلات إلى روح المجتمع في هيئةِ إيمان زائف، حتى يغدو الجهل دينا يتلى، والخرافة مذهبا يورث، والجنون طقسا جماعيا تقام له المواسم والأضرحة والاحتفالات.

طنطا، المدينة الجميلة التي عرفت بكرم أهلها ودفء قلوبهم، تحولت إلى ساحة تباع فيها الأوهام كالبضائع، وتقدس الخرافة باسم الدين، ويمنح الجهل صك البركة تحت عباءة الأولياء.
للأسف نحن أمام ظاهرةٍ معقدة، لا تختزل في طقوس غريبة أو معتقدات بدائية، بل في عقل جمعي فقد القدرة على التمييز بين الدين والأسطورة، بين القداسة والوهم.

فحين يصبح الاستسلام للخرافة جزءا من الهوية الاجتماعية، لا يعود الجهل عيبا، بل يتحول إلى فضيلة مقدسة، يدافع عنها الناس كما يدافعون عن إيمانهم.
الجهل في ذاته خطأ يمكن إصلاحه، لكنه حين يقدس يتحول إلى سجن روحي لا تكسر قضبانه بسهولة.
إنه الجهل الذي يتغذى على الخوف من السؤال، ويعيش على كسل الفكر، ويتكاثر حيث يحاصَر العقل ويخدر الوعي.
هو جهل يتزين بملابس الدين والروحانية، ويتخفى خلف كلمات مثل “الكرامة” و“البركة” و“السر” ،فتقدم الأوهام للناس على أنها معجزات، وتبرر الخرافات باسم الإيمان، ويمنع السؤال بحجة الأدب مع الله أو الأولياء أو الرموز
فتصبح الأضرحة معابد للاتكالية، والطقوس وسيلة للهروب من مواجهة الواقع، وتتحول الزيارة إلى نوع من التخلي عن المسؤولية الوجودية للإنسان تجاه نفسه ومصيره.
فالإنسان الذي يسلم مصيره إلى الحجر، لن يفكر يوما في بناء صرح من فكر ،وهكذا، تستبدل القوة الداخلية للإنسان ببركة خارجية، ويختزل الإيمان في حركة الجسد لا في يقظة العقل.
الخرافة ليست مجرد فكرة باطلة، بل نظام اجتماعي متكامل يقوم على صناعة الجهل وإدارته ،فهي ترضي العاجزين عن الفهم، وتسكن قلق الوجود، وتمنح الشعور باليقين في عالم مضطرب ومجهول.
ومن هنا خطورتها: لأنها تلبي حاجة الإنسان إلى الأمان والمعنى، لكنها تمنحه ذلك بثمن فادح — تجميد العقل
وحين تروج السلطة أو الإعلام لهذه الممارسات باعتبارها تراثا أو روحانية شعبية فإنها لا تحافظ على الهوية كما يزعم، بل تعيد إنتاج العصور المظلمة في ثوب حديث.
إنها تجارة في الخوف، وإدارة منظمة للوهم، يراد منها تخدير الناس وإبعادهم عن التفكير الحر والمطالبة بالتغيير.
إن أول خطوة في مقاومة هذا "الجهل المقدس"
والعقلانيه هي روح التنوير.

هي إعادة الاعتبار للعقل و شجاعة السؤال في وجه السائد، ورفض التسليم الأعمى لما يقال. التنوير ليس حربا على الدين، بل حماية له من أن يستعمل وقودا للجهل.
إنه الدفاع الأخير عن إنسانية الإنسان، عن قدرته على أن يرى بعينيه، لا بعين الجماعة. وحين يولد التنوير في العقول تموت الخرافة ،في مجتمعات أقصي فيها التفكير لصالح الطقوس، يصبح كل صوت للعقل خطيئة، وكل سؤال تهديدا للنظام القائم.
لكن الفلسفة علمتنا أن الحقيقة لا تخاف السؤال، وأن النور لا يخشى عليه من العيون المفتوحة ،لقد آن للعقل العربي أن يخرج من دائرة القداسة الزائفة، أن يتحرر من عبادة الرموز والأضرحة، وأن يفهم أن الكرامة الحقيقية ليست خارقة للطبيعة، بل نابعة من الوعي نفسه.
فالإنسان الذي يعبد القبور ميت في داخله، أما الذي يعبد النور فهو الذي يخلق الحياة من جديد.
فالخرافة لا تهزم بالوعظ ولا بالمنع، بل بالتعليم، والتفكير، والفلسفة، والفن، والحرية.
وحين تتعلم الأجيال أن تقدس السؤال، لا تقدس الصمت، سنعرف أننا بدأنا نغادر ظلمة الجهل المقدس، نحو شمس التنوير التي لا تغيب ،آن لنا أن نعيد إحياء العقل،بأن نسأل، ونفكر، ونشك، ونؤمن بأن السؤال ليس كفرا بل ضروره، وبأن الطريق إلى الحقيقة لا يمهد بالخرافة، بل بالعقل المستنير والفكر الواعي.
واخيرا الأوطان لا تنهض بالأضرحة، بل بالمختبرات والعلم ، ولا تبنى بالكرامات، بل بالأفكار البنائه

زر الذهاب إلى الأعلى