جبايات بلا دولة، المواطن فريسة اقتصاد الحرب الصامت
في بلد أنهكته الحرب منذ عقد من الزمن، تحوّل المال العام من رافعة لبناء الدولة إلى سلاح في معركة البقاء، وتحول تحصيل الأموال من عملٍ سيادي يخضع للقانون والموازنة العامة للدولة إلى أداة للسيطرة والتمويل، تُجمع الإيرادات اليوم بمنطق السيطرة الجغرافية وتُدار بعقلية الحرب، فأُذيبت الحدود بين السلطة والإكراه، وبين الإيراد العام والغنيمة الخاصة، وظهرت سلطات موازية تُمارس الجباية خارج نطاق الدولة.
في مناطق سيطرة الحوثيين، أصبحت الإيرادات العامة أداة تمويل رئيسية للمجهود الحربي، إضافة إلي بعض منها تُفرض تحت مسميات دينية أو "اجتماعية"، وتشمل الضرائب، الزكاة، الجمارك الداخلية، وإتاوات على التجارة والوقود والنقل، وفي مناطق الحكومة الشرعية، تفتت الإيرادات بين سلطات محلية وقوى عسكرية وإدارية متنازعة، فصار لكل منطقة "خزانتها" الخاصة ومواردها ونفقاتها المستقلة.
بهذا التفكك، لم يعد المال العام وسيلة لتحقيق العدالة المالية، بل آلية لتثبيت النفوذ والسيطرة، وأداة لإعادة توزيع الموارد على أسس القوة وليس وفقاً للقانون، هكذا تشكّل في اليمن مزيجٌ جديد يمكن وصفه بـ الاقتصاد السياسي للجباية المسلحة.
الجباية كأداة سلطة وعقيدة حرب
تحصيل الإيرادات اليوم لم يعد مجرد عملية مالية من مهام مؤسسات الدولة، بل عملية سياسية بإمتياز، فتملك الإيرادات العامة أصبح شرطًا أساسيًا للسيطرة، ومن يسيطر على الموارد يفرض الخطاب والسيادة.
في صنعاء، تُوظف الإيرادات في تعزيز سلطة الجماعة وشرعنة وجودها، بينما تُستخدم في مناطق الحكومة كأداة تمويل متقطع لأنشطة متفرقة تضمن استدامة السيطرة وتعزيز الولاء للفصائل دون مركزية واضحة.
وبذلك تحولت الموارد العامة إلى شبكات مالية مجزأة ومغلقة تُدار بعقلية "اقتصاد الحرب"، حيث تذهب الأموال وفق الولاء والانتماء ونفقات الكتائب، لا وفق الحاجة العامة أو التخطيط المالي.
وفي منطق الحرب، أصبح السطو على مصادر المال العام "أيديولوجيا للبقاء"، فكل طرف يبررها بوصفها "ضرورة وطنية" أو "واجبًا دينيًا"، في حين أنها في الواقع نظام تمويل ذاتي للصراع، وبهذا أُعيدت صياغة العلاقة بين المال والسلطة من علاقة مساءلة إلى علاقة إخضاع، وتحولت المالية العامة إلى "خزانة للحرب" لا أداة تنمية.
اقتصاد الإكراه وعسكرة المالية العامة
تعمل الجباية المسلحة وفق منطق اقتصادي مختلف تمامًا عن منطق الدولة، فالموارد تتحول إلى ريع شخصي أو فئوي، والسلاح يصبح أداة تحصيل، والعنف يملأ فراغ القانون.
فالجباة الجدد ليسوا موظفين عموميين تحكمهم القوانين، بل عناصر تابعة لفصائل أو سلطات الأمر الواقع، تُكافأ بالنفوذ وليس بالرواتب.
في هذا السياق، لم يعد المال العام وسيلة لإدارة التنمية أو تقديم الخدمات، بل وسيلة لتمويل الولاءات وشراءها، فكل نافذة إيرادية /نوافذ، تحولت إلى إقطاعية مالية صغيرة ترفد جماعة أو فئة عسكرية بالمال وتمنحها استقلالًا سياسيًا واقتصاديًا عن الدولة المركزية.
ورغم غياب الشفافية والبيانات، إلا أن مشهد مالي صغير بالأرقام يكشف لنا كيف أن اليمن يعيش هندسة مالية موازية، أصبحت فيها الجبايات المختلفة عماد اقتصاد حرب، وليس وسيلة للإيفاء بإلتزامات الدولة .
تشير تقديرات اقتصادية إلى أن:
- الجبايات غير الرسمية في مناطق سيطرة الحوثيين تتجاوز 1.2 تريليون ريال سنويًا، بينما الإيرادات الحكومية في مناطق الشرعية لا تتجاوز 40% من مستواها قبل الحرب.
- هناك أكثر من 70 منفذًا أو نقطة داخليًا تُفرض فيها رسوم متعددة على السلع.
- في بعض المحافظات، يُنفق أكثر من نصف الإيرادات المحلية خارج الموازنة العامة على الأمن والمجهود العسكري.
تفكك المالية العامة لصالح اقتصاد الظل
كانت النتيجة الطبيعية لهذا النمط من تحوير وظيفة الموارد والجباية هي تفكك المالية العامة للدولة، ولم يعد هناك حساب خزانة موحد، ولا نظام رقابي أو موازنة وطنية يمكن تتبعها والعمل بها، وفي ظل هذا الفراغ، نشأ اقتصاد ظل ضخم يتغذى على:-
- التهريب بأنواعه ( وقود، سلع استهلاكية، أجهزة إلكترونية، سلع رفاهية، وأحيانًا بعض المواد والسلع استراتيجية)
- الجبايات والاقتطاعات الغير رسمية ( إتاوات على الشاحنات، رسوم مرور على الطرق، اقتطاعات على المساعدات والإغاثة، وفرض رُسوماً على أنشطة السوق).
- السوق السوداء للعملة والتداول للعملات والريال عبر قنوات غير رسمية وأسعار متقلبة تولد أرباحًا كبيرة لوسطاء ومتحكمين محليين.
- الخدمات المالية غير الرسمية، (شبكات الحوالات المحلية والدولية خارج النظام البنكي الرسمي) والتي تسيطر عليها شبكات ولائية.
تقوم الجهات المختلفة المسيطرة على الإيرادات بالتوظيف الاقتصادي لهذه الأموال على شكل شركات مقاولات وهمية، امتيازات واردة، وشركات ظل أو منظمات تقوم بأعمال الخدمات، دعم الأفراد الموالين والسيطرة على تجارة الجملة وسيطرة النخب على تجارة السلع الأساسية.
و تُدار هذه الأنشطة عبر شبكات متداخلة من وسطاء محليين، قيادات فصائل، ومسؤولين محليين، حيث يُستخدم العنف أو السطوة كآلية تنفيذ، وتتم السيطرة على هذا الاقتصاد عبر مزيج من تملك النوافذ الإيرادية والمنافذ الجغرافية، والتحكم بالمعلومة، والربط بين الحماية والجباية (حماية طرق/قوافل مقابل إتاوة).
هذه البنية المشوهه حولت النشاط الاقتصادي إلى مورد دائم لتمويل الصراع، وأعادت إنتاج الهياكل الموازية التي تقوّض إمكانية عودة المالية إلى إطار الدولة.
إذ تقدر نسبة النشاط غير الرسمي بأكثر من نصف النشاط الاقتصادي في بعض المناطق — تقديرياً أكثر من 60% بحسب مؤشرات ميدانية وتقارير اقتصادية — ما يجعل السيطرة على الموارد الرسمية هامشية مقارنة بما تُنتجه الشبكات غير الرسمية.
المواطن كهدف للجباية
من يدفع الثمن في النهاية هو المواطن، ففي جميع مناطق اليمن، يُعامَل السكان كمصدر دائم للإيراد:
رسوم في المدارس والمستشفيات، إتاوات على الطرق، ضرائب متكررة على السلع والخدمات، وحتى الإغاثة الإنسانية لم تسلم من الاقتطاعات.
يدفع المواطن مرتين: مرة للدولة أو ما تبقّى منها، ومرة أخرى بشكل غير مباشر كإضافة على قيمة السلع، للسلطة المسلحة التي تسيطر على منطقته، حتى بات المواطن ضحية مزدوجة:- (الضريبة من أجل العيش) ، و (غياب الحماية والخدمات) في ظل عجز الدولة المالي.
الآثار المباشرة والمتلاحقة على المواطن:
- ارتفاع الأسعار و تدهور القدرة الشرائية نتيجة تعدد الرسوم والجبايات المتراكمة والضبط العشوائي.
- نقص التمويل الرسمي تسبب في تراجع وصول الخدمات وجعل المدارس والمستشفيات تفتقد الموارد؛ والسيطرة على الايرادات حولت أولويات الإنفاق بعيدًا عن الخدمات الأساسية.
- فقدان الأمان الاقتصادي، الإتاوات والابتزاز أرغم الكثيرين على ترك أعمالهم، و دفع مبالغ تُدفع من قوت الأسرة اليومية.
- العبء المالي تسبب في زيادة الفقر وعدم الاستقرار الاجتماعي يُفاقم الهشاشة الإجتماعية ويُسرِّع الانزلاق إلى الفقر المُدقع.
- تآكل العقد الاجتماعي فالمواطن يفقد الثقة في أي سلطة تُحجب عنه الحقوق وتطالبه بالواجبات دون مساءلة أو خدمة مقابلة.
- الهجرة أو النزوح لتفادي العبء المالي أو لأن فرص الكسب في مناطقهم باتت معدومة.
نحو اقتصاد ما بعد الجباية المسلحة
الخروج من اقتصاد الجباية المسلحة لا يمرّ فقط بإنهاء الحرب والقتال في الميادين، بل بعملية متكاملة تشمل الجانب السياسي والمؤسسي والاقتصادي، وفق خطوات عملية ومباشرة يمكن أن تؤسس لانتقال ملموس:
1.أليات إنتقالية مؤقتة وموثوقة لإدارة الإيرادات، تبدأ بإدارة الموانئ والمنافذ والخزينة وتُشرك فاعلين محليين ودوليين تحت إشراف مؤسسات محايدة لتجنب فراغ الموارد.
2. حزم اتفاقات سياسية (خارجية/محلية)، لنزع الطابع المسلّح عن الموارد (Demilitarizing Revenues) ، وتنقل مسؤولية الجباية من الفصائل إلى الوحدات المدنية (مؤقتة) مع ضمانات حماية.
3. البدء بإجراءات توحيد النظام المالي والمصرفي بشكل تدريجيً، البدء بترتيبات تشغيل قناة رسمية موحدة لإيرادات الجمارك والضرائب، و صولات إلي إعادة ربط الحسابات وتوحيد سعر الصرف .
4. إدخال نظم إلكترونية لتحصيل الجباية والضرائب (فاتورة إلكترونية، نظام جمركي مركزي) مع قواعد بيانات لوقف الازدواجية، و الشفافية والرقابة الرقمية
5. آليات شفافة لتوزيع الإيرادات بين المركز والمحافظات تضمن تمويل الخدمات وتقلل حوافز النخب المحلية للإحتفاظ بالموارد، كمقاربة عادلة للتقاسم.
6. برامج تشغيل معنية بالتوظيف المحلي، دعم المشروعات الصغيرة، ودمج العاملين في الاقتصاد الموازى في الاقتصاد الرسمي، و توفير مناخ تعاف اقتصادي وبدائل للدخل.
7. مكافحة الإفلات من العقاب ومساءلة شبكات الجباية المتورطة في الابتزاز ونهب الموارد عبر آليات محلية ودولية مناسبة.
8. دعم دولي مشروط و مساندة فنية ومالية من مؤسسات دولية تشترط إصلاحات مؤسسية وشفافية لتفكيك اقتصاد الحرب.
هذه المقاربة المتكاملة تمنح فرصة لتحويل الموارد من أدوات استحواذ إلى أدوات إعادة بناء، لكن نجاحها يتطلب إرادة سياسية محلية ودعم خارجي منسّق.
لإن "الجباية المسلحة" ليست مجرد عرض جانبي للحرب اليمنية، بل هي جوهر اقتصاد الصراع، وطالما بقيت السلطة مرتبطة بالسلاح لا بالقانون، ستبقى الجباية وسيلة إخضاع لا تنمية، وستظل الإيرادات العامة تحت تصرف البندقية ليس تحت تصرف الخزانة.
وما لم تبدأ عملية استعادة الدولة من تحرير الجباية من هيمنة السلاح، فإن أي حديث عن تعافٍ اقتصادي سيظل مجرد وهم فوق أنقاض مالية عامة منهارة.