قراءة تحليلية في عودة عناصر القاعدة وداعش في المحافظات المحررة..

Author Icon محمد علي محسن

أكتوبر 27, 2025

تنظيم القاعدة كان غرسًا شيطانيًا نما بين ظهرانينا، ورعت بذوره بتمويل دولي مريب، وادارته أيادٍ معروفة لتحقيق مآرب سياسية وأيديولوجية، متسترةً برداء الدين.

لقد شاخت مبررات هذا التنظيم الوجودية وتلاشت حتى قبل إغتيال زعيمه أسامة بن لادن فجر يوم ٢ مايو ٢٠١١، في أبوت آباد الواقعة على بعد ١٢٠ كم عن إسلام أباد ، حيثما كان يقيم هو وزوجاته وأبنائه .

فالحقيقة التي يجب إدراكها أن تنظيم القاعدة كان قد انتهى كفكرة وغاية بتبدل المزاج العام ، وبتلاشي وزوال فكرة التغيير العنيف المستمد من قراءة خاطئة متزمتة لايات الجهاد في القران ، أو من وحي تأويلها وتفسيرها لها او للاحاديث النبوية الداعية للجهاد باعتباره ذروة سنام رسالة الاسلام .

أتحدث هنا عن المنظومة الفكرية التي تبناها التنظيم قبل مدة وجيزة من سقوط العاصمة الأفغانية كابول بيد "المجاهدين" الذين حاربوا النظام الافغاني الموالي لروسيا منذ اجتياح قواتها لهذا البلد المسلم نهاية العام ١٩٧٩م .

بين جدران القاعدة الباكستانية، وبعد نقاش طويل، خرج القادة بفكرة تأسيس كيان جديد أطلقوا عليه اسم "تنظيم القاعدة"، تيمنًا بالمكان الذي شهد ميلاد الفكرة ، وأقترن أيضا بمسمى قاعدة البيانات ، بأسماء المجاهدين وجنسياتهم .
واستفاد المكتب من موقعه قرب الحدود الأفغانية لدعم المجاهدين، سواء من خلال توفير المأوى للمجاهدين العرب في بيشاور أو تدريبهم في معسكرات شبه عسكرية في أفغانستان. كان هذا المكتب جزءًا هامًا من جهود دعم المقاتلين الأجانب في الحرب الأفغانية، وشكل القاعدة لتكوين التنظيم.

وفي قاعدة بيشاور الباكستانية، أُسِّس التنظيم خلال الجهاد الأفغاني في الفترة بين أغسطس ١٩٨٨م وأواخر ١٩٨٩ / أوائل ١٩٩٠ م .
وكان نتاج لذاك اللقاء لقادة "الأفغان العرب": الشيخ أسامة بن لادن السعودي ذو الجذور الحضرمية اليمنية، عبدالله عزام الاب الروحي لابن لادن ، ايمن الظواهري ، وصبحي عبد العزيز محمد الجوهري أبو سنّة ، المعروف أيضا باسم محمد عاطف وأبي حفص المصري، إلى جانب أبي عبيدة البنشيري وآخرين .

وكان السؤال المصيري يلوح في الأفق: "ماذا بعد انتهاء المهمة؟ وأين مصير المجاهدين العرب بعد انتهاء الحرب؟" جاء هذا اللقاء في وقت ضاقت بهم ذرعًا الأنظمة العربية الداعمة سابقًا لهم ، وامتنعت عن استمرار تمويلهم ودعمهم لوجستيًا ، بعد أن بات كثير منهم مطلوبًا لأجهزة أمن بلدانهم بسبب تورطهم في عمليات إرهابية.

وفي مدينة " بيشاور " تشكل تنظيم القاعدة ، منبثقا عن مكتب الخدمات الذي انشأه الشيخ عبد الله عزام، وأسامة بن لادن ، كمنظمة لتمويل المقاتلين في أفغانستان .

فمنذ إنشائه وحتى عام ١٩٩١م بقت بيشاور الباكستانية منطلقًا لعناصر القاعدة المحاربة للوجود الروسي في أفغانستان ، باعتبارها بوابة أفغانستان على العالم .

وفي عام ١٩٩١م ، انتقلت قيادة تنظيم القاعدة إلى السودان، بانتقال أمير التنظيم أسامة بن لادن، مع الاحتفاظ بمكاتب في أنحاء شتى من العالم.
وفي عام ١٩٩٦م ، عاد أسامة بن لادن وأعضاء آخرون في تنظيم القاعدة إلى أفغانستان.
وفي الفترة من عام ١٩٩٦م إلى أواخر عام ٢٠٠١م ، كان أسامة بن لادن وأعوانه يشرفون على عمليات تنظيم القاعدة من أفغانستان تحت حماية حركة طالبان .

وحملت العقيدة الجديدة للتنظيم شعارًا مزدوجًا : "محاربة الأنظمة العربية الموالية لأمريكا والغرب، وإخراج ما أسموهم ب 'الصليبيين' من جزيرة العرب".
وتبنى التنظيم فكرة الجهاد ضد ما يسميها "الحكومات الكافرة"، ويدعو إلى "تحرير بلاد المسلمين" من الوجود الأجنبي أيا كان .

وبعد أن تربع التنظيم على عرش الأخبار العالمية لما يقارب خمسة عشر عامًا ، بدأ نجمه في الأفول تدريجيًا، في وقت سابق لانطلاق شرارة ثورات الشباب العربي عام ٢٠١١.
فلم تكن انتفاضة الشارع العربي سوى الضربة القاضية التي حصدت آخر ما تبقى للتنظيم وفروعه من ذرائع واهية ومبررات مزعومة.

حاول زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) اللاحق، أبو بكر البغدادي، تدارك هذا الأفول للتنظيم الأم، فانطلق ليستنهض فكرة "الجهاد" في العراق، مستغلًا الفوضى التي أعقبت الانسحاب الأمريكي، وسخط المناطق السنية على الحكومات العراقية المتعاقبة المدعومة من الأغلبية الشيعية وإيران .

فضلاً عن الجمود والانقسامات التي أصابت تنظيم القاعدة وانحسار تأثيره. شجعت هذه المعطيات البغدادي على إعلان "دولته" المزعومة في يونيو ٢٠١٤ من على منبر جامع الموصل.
هذا الانسلاخ عن كيان القيادة المركزية للقاعدة أحدث شرخًا عميقًا بين "داعش" الكيان الصاعد، و"القاعدة" الكيان الأم الذي شاخ وبلغ أرذل العمر، وانتهت صلاحية عقيدته ومبررات نشأته.

ونشأة أي حركة سياسية أو عسكرية أو دينية غالبًا ما يصاحبها أمران: زخم إعلامي يضخم وجودها، وغموض فكري يلف عقيدتها.
وإذا كان شعار القاعدة محاربة القوات الأجنبية والأنظمة الموالية، فإن داعش أعلن عن نفسه بوحشية لا تميز بين مسلم وكافر، ولا بين جندي ومدني، ولا بين وطني وأجنبي.

هذه البداية المرعبة، بقدر ما منحته نفوذًا سريعًا في المساحات الهشة أمنيًا والغارقة في الصراعات المذهبية، خلقت له في المقابل تعقيدات جمة داخل هذه الحواضن المجتمعية ذاتها، ناهيك عن خلافاته العقدية والتنظيمية مع قادته السابقين في القاعدة.

وبالرغم من أن داعش قدّم نفسه كـ "دولة للخلافة" بحكم توافر عاملَي الأرض والسكان - وهما ما لم يتوفرا للقاعدة من قبل - إلا أنه تسبب بمشاكل وجودية داخل التنظيمات الجهادية عمومًا .

فقد أحدث انقسامًا حادًا في المجتمعات التي يفترض أنها حاضنته، كما وأدواته المتوحشة أوجدت سخطًا عارمًا بين فئات المجتمع، وسرعان ما فقد التعاطف الذي كان يحظى به .
فلم يتبقى للتنظيم سوى شباب مُغرر بهم، يتم استقطابهم بفعل الفقر والجهل وعمليات غسل الأدمغة، أو أفراد متورطين سابقًا في أعمال إرهابية داخلية أو عابرة للحدود .

وبسبب نهجه الدموي وفظائعه غير المسبوقة، التي أُسِّست على فتاوى شاذة أباحت قتل الأبرياء بمبرر " الضرورات تبيح المحظورات " ما يعني أن قتل الكافر جائز ومشروع في محيط مسلم أو سوق مزدحم ، وصفة الكافر هنا لا تقتصر على الأجنبي غير المسلم وانما يندرج تحت هذا الوصف كل جندي وضابط أو متعاون مع الدولة .

ونتيجة لهذا الجنوح للعنف أصبح التنظيم مسؤولًا عن مقتل عشرات الآلاف من الضحايا. ووصلت وحشيته إلى حد الذبح والحرق والتفجير الانتحاري داخل المساجد والأسواق العامة، دون أن تكون لهذه العمليات أي عواقب استراتيجية على القوى التي يدعي محاربتها، إذ أن معظم الضحايا كانوا من المدنيين الأبرياء.

وملاحقة عناصره وقادته أمنيًا أوقعته في نفس ورطة القاعدة السابقة. فرغم محاولات من تبقى منهم إثبات حضورهم عبر عمليات "انتحارية" هنا وهناك، إلا أن هذه العمليات بدت في جوهرها أعمالًا انتقامية ثأرية شخصية، أكثر منها عمليات عسكرية أو أمنية منظمة تعبر عن كيان له مشروع واستراتيجية.

والأخطر من كل ذلك، أن منتهى "القاعدة" و"داعش" وما شابهما من المسميات، تحولا إلى مجرد أداة في يد أجهزة مخابراتية محلية ودولية، تُحركها وفق أجندات سياسية ضيقة.

لقد انتهت هذه التنظيمات بانتهاء المبرر الحقيقي لنشأتها بعد انقضاء مرحلة "الأفغان العرب"، ويجب التمييز بين عمليات الاغتيال المستهدفة لأسماء محددة لإرهابيين سابقين ملاحقين من امريكا او أجهزة الأمن الأخرى ، وبين العمليات التي تحدث في أبين أو عدن أو شبوة، فهذه الأخيرة عمليات موجهة ودوافعها السياسية والاقتصادية معروفة مسبقًا .

فهذه العمليات هي نتاج لأزمات داخلية عميقة، أحدثت شرخًا في النسيج الاجتماعي، واستغلتها أطراف معينة لتمويل وتجنيد الشباب وغسل أدمغتهم.
فلم يعد "تنظيم القاعدة" أو "داعش" سوى قناع وواجهة لفكرة مضللة، تروّج لبقائهما كقوتين ضاربتين قادرتين على الفعل متى شاءتا.

والحقيقة المُرّة، أنهما – من حيث الجوهر – كالميت الذي انتهى، وما عملياتهما المزعومة إلا تجسيدًا لمعارك عرضية، وتنفيذًا لأجندات سياسية، وخدمة لأطراف نافذة، تتعارض غاياتها كليًا مع الشعارات البراقة التي رفعها التنظيمان ذات حقبة تاريخية .

وما هو معلوم أنه وبعد أن ضعفت شوكة القاعدة ، ظلت اليمن ملاذا لعناصرها الفارة من السعودية والدول الأخرى ، فتم الاعلان عن فرع التنظيم في اليمن عام ٢٠٠٩م ، تحت مسمى "تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية" بعد اندماج عناصر القاعدة في اليمن مع تلك العناصر الوافدة .

إلَّا أن هذه الجماعات لم تعد بذات الزخم والحضور ، ما جعلها تقوم بأعمال مرتجلة انتحارية على غير عادتها ، ونظرا لإنفصالها الفكري والمالي عن مركزها ، وجدت ذاتها في خضم واقع يتصادم مع غايات التنظيم الإرهابي .

فضلا أنها أضحت مطاردة داخليا ودوليا وقادتها عرضة لعمليات اغتيالات متلاحقة ، وهنا سهل اختراقها واستقطابها من أجهزة أمن يمنية وغير يمنية ، ولعل ما شهدته العاصمة صنعاء وأبين خلال رئاسة هادي ، لدليل على أن تنظيم القاعدة انتهى ، فلقد تحولت هذه التنظيمات إلى ورقة في صراعات السلطة .

وما نراه الان ليس إلا تأكيدًا لما كان يردده الرئيس هادي ، في أكثر من مناسبة ، فهذه جماعات محاربة بالوكالة ، وأن أنصار الشريعة كانت قوة استخدمها الرئيس السابق لاضعافه وإفشال إدارته الانتقالية .
وإذا ما شاهدنا الان عودة تنظيم القاعدة إلى الوجود ، فذاك لا يعني أنه ما زال يتمتع بالقوة والفعالية كي يهدد بالاغتيال او النسف لمنشآت او معسكرات ، فعلى العكس فهذه العناصر تعيش حالة من التيه والاضطراب والخوف من المنتهى .
فكل المؤشرات والقرائن الفكرية والمادية والبشرية تشير صراحة إلى أنها باتت في وضعية المحتضر ، فهي مخترقة وغير قادرة على التأطير او التأثير الكثيف ، وما تقوم به ليس إلا محاولة انتحار بطيئة تعجل بزوالها النهائي عاجلا ام اجلا ، فلقد فقدت كل شيء وصارت مجرد أداة لمن يدفع ويمول ..

 

زر الذهاب إلى الأعلى