الموازنة العامة: إستعادة التوازن وإنقاذ المالية العامة
تمثل أزمة المالية العامة في اليمن أحد أبرز مظاهر تفكك الدولة وضعف مؤسساتها، إذ أفضى الانقسام المالي والإداري إلى تعطّل وظائف الموازنة العامة كأداة للتوزيع العادل للموارد وتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
إذ تواجه المالية العامة في اليمن واحدة من أسوأ مراحلها التاريخية نتيجة تفكك مؤسسات الدولة وتآكل القاعدة الإيرادية وتضخم النفقات الجارية على حساب النفقات التنموية.
لذلك فإن أي رؤية مستقبلية للإصلاح المالي يجب أن تقوم على إعادة ضبط إدارة المالية العامة وتعزيز الانضباط المالي والشفافية، بما يضمن كفاءة الإنفاق وترشيد الموارد وتوسيع قاعدة الإيرادات، بما يسهم في تحقيق الاستقرار الاقتصادي ودعم النمو المستدام.
تشير بيانات البنك الدولي إلى أن الإنفاق الجاري في اليمن يمثل حوالي 82% من إجمالي الإنفاق العام، بينما لا يتجاوز الإنفاق الاستثماري 8% فقط، وهي نسبة تكشف عن خلل بنيوي خطير في هيكل المالية العامة، إذ تُستنزف الموارد في بنود تشغيلية ورواتب ووظائف مزدوجة ووهمية، فيما تتراجع مخصصات التنمية والبنية التحتية والإنتاج.
إن إعادة هيكلة وضبط تمويل الحكومة لوحدات الجهاز الإداري للدولة وضبط النفقات التشغيلية تمثل المدخل الحقيقي لإعادة بناء الموازنة العامة على أسس تنموية.
إن استمرار الحكومة في العمل دون موازنة مالية معتمدة يُعد من أبرز مظاهر الفوضى المالية، ويقوّض الرقابة والمساءلة، ويسمح بتوسّع النفقات خارج الإطار القانوني.
فمنذ عام 2015، لم تتمكن جميع الحكومات المتعاقبة شمالا وجنوباً، من إقرار موازنة عامة شاملة، وأقتصر الإنفاق على أوامر صرف وإجراءات جزئية خارج إطار الموازنة، ما أدى إلى تضخم غير منضبط للنفقات، وغياب الشفافية المالية، واتساع فجوة الثقة بين المواطن والمؤسسات العامة.
*لذلك يُعتبر إقرار موازنة عامة سنوية شفافة ومعتمدة وفق أطر مالية وأهداف قصيرة ومتوسطة الأجل، قبل أي إصلاحات إقتصادية، هو الخطوة الجوهرية لإنقاذ الاقتصاد وإعادة الثقة بالمؤسسات المالية*.
و يجب أن يستهدف إعداد الموازنة ما يلي
■ مكافحة معدلات التضخم المرتفعة*، من خلال توفير موارد كافية تمتلك القدرة على خلق قيم اقتصادية للتأثير إيجابيًا على الأسعار، وتغطية العجز في الميزانية الحكومية، ودعم الاقتصاد بشكل إبداعي لتعويض هذا العجز، مما يؤثر على استقرار العملة، ومن المتوقع أن يؤدي اعتماد موازنة شفافة وضبط الإنفاق إلى خفض معدل التضخم بنسبة 20% خلال العامين الأولين، واستعادة ثقة السوق تدريجيًا، مما قد يحسن موقف سعر صرف الريال بنسبة 15-20%.
■ تقنين النفقات بما يتواءم مع العجز المالي القائم*، وتحديد أولويات الإنفاق والحد من كل أوجه التبذير بالمال العام، وخفض الإنفاق على القطاعات غير المنتجة أو التي تخللتها أوجه فساد، "تُظهر تقارير الرقابة والمحاسبة أن نحو 45% من إجمالي الإنفاق العام يذهب لقطاعات غير خدمية أو إنتاجية"، فيما تعاني القطاعات الحيوية كالصحة والتعليم من نقص حاد في المخصصات، وبتنفيذ سياسة تقنين فعالة، يمكن إعادة توجيه نحو 30% من النفقات المهدرة لصالح قطاعات التعليم والصحة، مما يرفع الإنفاق الاجتماعي بحوالي 20% سنويًا ويحسن الوصول إلى الخدمات الأساسية لما لا يقل عن 5 ملايين مواطن إضافي.
■ معالجة التزايد المتنامي في الاعتمادات المرصودة للوحدات والقطاعات في الموازنة*، لتجنب السياسات التضخمية الرامية إلى سدّ العجز المتزايد في مقابلة النفقات عن طريق زيادة حدّ السحب على المكشوف من البنك المركزي، والتي قد أدت إلى تدهور قيمة العملة وزعزعة استقرار الاقتصاد ككل، وساهم في رفع الكتلة النقدية بشكل غير مبرر، ويتوقع أن يؤدي التحكم في السحب على المكشوف إلى تقليص الكتلة النقدية الزائدة بنسبة 25% خلال عامين، و يساهم في تهدئة الأسعار وتقليل فقدان القوة الشرائية للمواطنين بنحو 10% سنويًا.
■ العمل على تحسين وسائل تحصيل الإيرادات، وتنوعها*، وضرورة أن تشمل الخطة آلية للتخفيف من الاستيراد والعمل على تعزيز التصدير لمواجهة العجز الكبير في احتياطيات العملة الصعبة، "يُقدّر العجز المالي الفعلي في 2023 فقط، بنسبة 43% من إجمالي الاحتياجات"، وفي حال تحسين التحصيل الضريبي والجمركي وتعزيز الصادرات غير النفطية بنسبة 15% سنويًا، فإنه يمكن خفض العجز إلى أقل من 25% خلال ثلاث سنوات، مما يعزز الاستدامة المالية للدولة.
■ تعبئة الطاقات الإجتماعية وتعزيز التعاون والتكافل*، ودعم الفئات المحتاجة من خلال دعم و تشجيع برامج التكافل الاجتماعي، لتخفيف الضغط على الحكومة في التنمية، "يعتمد أكثر من 21 مليون شخص على المساعدات الإنسانية"، ما يستدعي تفعيل دور المجتمعات والاستفادة من القيم الاجتماعية في حب العمل الخيري والاجتماعي، إذ تشير التوقعات إلى أن تفعيل مبادرات التكافل الاجتماعي يمكن أن يغطي ما بين 10%-15% من احتياجات الفئات الأكثر ضعفًا سنويًا، بما يخفف الضغط على موازنات الإغاثة الحكومية والدولية بمعدل يقارب 200 مليون دولار سنويًا.
■ ربط إعداد الموازنة بخطة تنموية واقعية متوسطة الأجل (2-3 سنوات)*، تحدد أولويات الاستثمار والإنفاق وتوجيه الموارد لتحقيق أهداف واضحة مثل خلق فرص عمل، تحفيز الإنتاج المحلي، وإستعادة كفاءة البنية التحتية الأساسية، و "اعتماد التخطيط متوسط الأجل سيؤدي إلى تحسين كفاءة الإنفاق بنسبة تصل إلى 25% حسب تجارب الدول النامية المشابهة".
■ دعم المجالس المحلية في المحافظات ببرامج بناء القدرات الفنية والإدارية*، بما يضمن قدرتها على ممارسة صلاحياتها بفعالية، خاصة في إعداد الموازنات المحلية وإدارة المشاريع، و إعطاء الأولوية للمشاريع المحلية التي تعتمد على تشارك المبادرات الاجتماعية والموارد الذاتية، وتشجيع الشراكة مع القطاع الخاص والمجتمع المدني في تمويل بعض المشاريع التنموية والخدمية على مستوى المحافظات والمديريات.
إن إنقاذ المالية العامة لا يتحقق بقرارات مؤقتة أو إجراءات تقشفية فقط، بل من خلال بناء عقد مالي جديد بين الدولة والمجتمع يقوم على العدالة في الجباية والشفافية في الإنفاق، وتعزيز الرقابة والمساءلة، وربط الموازنة برؤية تنموية وطنية تعيد الثقة بالقطاع العام وتفتح الطريق أمام تعافٍ اقتصادي حقيقي ومستدام.
واستعادة الانضباط المالي والالتزام بإطار موازني شفاف وشامل هو المدخل الحقيقي لإنقاذ الاقتصاد اليمني من الانهيار، بدلا من الإكتفاء بإدارة الأزمات.
فالموازنة ليست مجرد أداة محاسبية، بل هي مرآة لسيادة الدولة وقدرتها على توجيه الموارد بعدالة وكفاءة، وترسيخ الثقة بين الدولة والمجتمع، وبناء اقتصاد وطني أكثر توازنًا واستدامة.