تعز» صيرورة تاريخية تعيد توزيع المعاني بين القديم والجديد.
تعز معلقة اليوم بين سلطتين: سلطة فقدت شرعيتها، وأخرى لم تولد بعد. هذا ما يسميه غرامشي "الأزمة العضوية"، حين يعجز النظام القديم عن الاستمرار، ولا يستطيع الجديد الظهور. الناس هنا يعيشون زمنًا رماديًا، حيث تتشكل الأحداث ببطء موجع.
مفهوم الهيمنة ليست مجرد قوة عسكرية أو سلطة أمنية، بل القدرة على إنتاج القبول الشعبي . وكل القوى المتنازعة خسرت هذه المعركة، المواطن لم يعد يشعر بأنه ممثل أو مرتبط بآمالها، ثلاث سلطات بلا أخلاق، المجتمع بلا مركز، والثقافة بلا حامل.
ومع ذلك، غياب الهيمنة لا يعني غياب الوعي، في كل حي هناك "خلايا أخلاقية للمجتمع المدني": المعلم الذي يدرّس بلا راتب، الطبيب الذي يعالج بلا معدات، الباحث الذي يكتب من قاع الجوع ككاتب هذه السطور مثلاً، هؤلاء هم المثقفون العضويون، الذين يعيشون في الأزقة ويعيدون تعريف الثقافة باعتبارها فعلًا يوميًا للمقاومة.
اليوم في تعز تُصنع ثورة
لا بالشعارات، بل بالانتظام الصامت للضمير الجمعي، الوعي الجديد لا يولد في الميادين، بل في لحظات الصبر الطويلة داخل البيوت المنهكة، ا(لتحول القادم مختلف تحول من العمق، من تجربة الألم، لا من قمم الخطاب السياسي او النخبوي)
التعب هنا – وإن بدا وكأنه استسلام – هو شكل من أشكال الوعي، كما سبق وان شرحته في مقال سابق عن تعز ... وما يحدث في تعز ليس فوضى، بل صيرورة تاريخية تعيد توزيع المعاني بين القديم والجديد. حين تنكسر السلطة ولا تنكسر الإرادة الجمعيه ، يبدأ التاريخ الحقيقي.
في لحظات التحول الكبرى، الأمم لا تُنقذ بالصدفة، بل بقدرتها على إنتاج وعي جمعي جديد. وهنا تكمن مهمة المثقف العضوي في تعز: لا نطكتب لنبرر، بل لنوقظ. المدينة المنهكة بفعل السياسة والحصار، فهي لا تحتاج إلى مزيد من الخطباء، بل إلى من يحوّل التجربة المأساوية إلى معرفة منظمة، ومن يصوغ من الرماد مشروعًا وطنيًا جديدًا.
غرامشي يرى أن النهضة الحقيقية تبدأ من الكتلة التاريخية: تحالف بين الطبقات المقهورة والمثقفين العضويين، بين الضمير الشعبي والعقل النقدي، بين التجربة اليومية والوعي النظري، في تعز، رغم عدم تبلور هذه الكتلة بعد، إلا أنه يدأ لي ملامحها تتشكل بصمت في المدارس، النقابات، منصات الإعلام المحلي، وشبكات المبادرات المدنية التي ترفض الانكسار.
المثقف العضوي هنا ليس حامل شهادة، بل حامل وعي؛ يربط بين السوق والوعي، بين الجوع والكرامة، بين الحصار والمستقبل. إنه ضمير المدينة، الذي يجمع شتات الألم في خطاب وطني جامع، يضع حدًا لثقافة الانقسام التي غذّت الصراع االحزبي والمناطقي والطائفي لعقود.
تعز اليوم، رغم ضعفها العسكري، تمتلك أخطر ما تملكه الأمم عند النهضة ( المعنى) والمعنى، أقوى من المدفع، لأنه يخلق الإجماع ويعيد تعريف الممكن، ومن رحم هذا المعنى تتشكل الكتلة التاريخية التي قد تعيد لتعز ولليمن توازنه المفقود — كتلة لا ترفع شعارات غير وطنيه بل شعار الإنسان، شعورٌ ينهض من الأزقة والجبل، لا من قاعات السلطات