عن بلاد خانها المعنى واعتمرت قدميها
في تلك البلاد، طبيب الأعشاب يطلب منك كشافة أشعة، وطبيب الأنف يكتب لك روشتة الدواء بالحبة السوداء، والكاتب المسرحي الساخر يلقي بيان الثورة، والثائر الجمهوري يمتدح المَلكيّات، والصحفي يريد أن يتولى مهام رئيس الوزراء، والوزير السياسي يتصرف حرفيًا كما لو أنه صحفي ورئيس حملة علاقات عامة لصالح دول مجاورة، والمحافظ يرى نفسه ناشطًا حقوقيًا ويناشد بالقبض على الجناة، والناشط الحقوقي يتصرف كأنه رئيس جمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة فيخلع هذا وينصّب ذاك.
هناك، رئيس الحزب يرى نفسه بائع مزاد سيارات يتفنن في تقديم العروض والتحسب للمناسبات ومزاج السوق، وبائع السيارات يتصرف كخبير تنموي ويقدّم نصائح في إدارة الموارد، وخطيب المسجد الذي لم يُكمل تعليمه الثانوي يريد أن يكون محاضرًا جامعيًا في الطب الجنائي ويفصل في الجنايات، والأستاذ الجامعي يريد أن يكون قائدًا لمنطقة عسكرية، وقائد اللواء العسكري يتعامل كزعيم زاوية صوفية ويحاضر في تزكية النفس، والدرويش الزاهد الذي كان مهلهل الثياب أصبح ضابطاً كبيراً مهيباً يتاجر بالعسل والعقارات عابرًا للأوطان ويبرم الصفقات حتى على جنوده وضباطه، والطبيب يتحدث في الإنشاءات العمرانية، والمهندس المعماري اختار أن يكون خبير زراعة، وطبيب القلب يعالج ابنته عند شيخ الحي يتوسله الحروز ويطلب ماءً مقروءًا عليه.
الأستاذ المدرسي إذ نزل ساحة المدرسة يلبس «الميري» و«البريه» ويتصرف كقائد كتيبة مغاوير، وكبار الضباط العسكريين وقادة الأركان ممن تعلموا في أرقى الأكاديميات العسكرية وخدموا في مؤسسة الجيش، ما إن حمي الوطيس وبلغهم نداء الواجب، غادروا البلاد إلى عواصم الجوار يعملون في التحليل الصحفي في نشرات الأخبار الدولية أو يمثلون منظمات السلم والمصالحة في لقاءات السفارات.
في تلك البلاد، الملحد الخالص يقسم بالله إنه ملحد ويدافع بشراسة عن نظرية الإمامة وحصر الحكم في البطنين، والجهاديون تابوا وها هم يقيمون ندوات عن الديمقراطية وجذور ميثاق حقوق الإنسان في الإسلام.
رؤساء المنظمات الحقوقية ينهبون رواتب الموظفين ويطلبون أيدي القاصرات للزواج، ومدير قسم الشرطة مسؤول الآداب يبتزّ فتيات الحي بالصور والفيديوهات، وزعيم القبيلة يفتتح معملاً جديدًا للحلويات والمخبوزات يقدمها هدية للدفعة الجديدة من المجندين الطائفيين، وعامل الطلاء البذيء يوقّع روايته الثالثة، بينما يتولى كاتب السيناريو دورًا محوريًا في المسلسل الدرامي الرمضاني.
في تلك البلاد، النساء يطلقن الرصاص في الأعراس، والأطفال يضربون المدرّس لتأديبه بسبب زيادته الواجبات المدرسية. المدرسة الخاصة تستأجر مقبرة لتعليم الأطفال، والأطفال يشترون المناهج التعليمية الحكومية من الرصيف.
في تلك البلاد، الجماعة الانفصالية تحاكم صحفيًا لأنه يشق صفّ الوحدة الوطنية، وشيخ الحارة يبيع جوازات السفر.
في تلك البلاد، خطيب الجامع أنهى المحاضرة عن النظافة بينما حمّامات المسجد بلا ماء، والمدرسون لا يغطّون من المنهج إلا الثلث، بينما ثلثا نتائج الثانوية فوق التسعين بالمائة، وكشف العشرة الأوائل يحتوي على أربعين اسمًا.
في تلك البلاد، تقول المنظمات إن ثلثي السكان بلا وجبة تالية، بينما تُقام برامج بعنوان: "كيف تدير مشروعك الخاص بنجاح".
في تلك البلاد، الهلال الأحمر الإغاثي يقيم فعالية لنقش الحناء، وسيارة إطفاء الحريق تأتي بلا ماء.
في تلك البلاد، البطالة بين الشباب بلغت مستويات عالية، لكن عمالًا أجانب يدخلون البلاد للعمل في قطاع الزراعة والتعمير.
في تلك البلاد، انكمش الاقتصاد أكثر من 40%، بينما ظهرت عشرة بنوك جديدة.
في تلك البلاد المشهورة بالإيمان تزدهر عصابات الاتجار بالبشر، والمعروفة بالتقوى تظهر في أعلى قوائم البحث عن فيديوهات لواط على منصّات الإنترنت.
في تلك البلاد حيث القبيلة والشرف تعتقل النساء ويتعرضن للاهانة في الأسواق ، وحيث القلوب الرحيمة تنتهك الطفولة في السخرة أو كدروع أولية في جبهات القتال.
في تلك البلاد، المحامي المدافع عن الحقوق يغلق الباب على زوجته شهورًا ويحلق رأسها ويحرق جسدها عقابًا لها، والقاضي يطلب الحماية من القبيلة، والبنك المركزي يبحث عن المال في محلات الصرافة.
في تلك البلاد، إذا مات المريض في المستشفى يقتل أبناؤه الطبيب، وإذا قال لك زعيم العصابة: "أنت في أمان" اغتالك بعد ساعات، وإذا قال لك: "أنت في عهدٍ وشرفٍ مني" أهان أبناءك ونسف بيتك بالبارود وكبّر وشهّد اتباعه بالنصر.
في تلك البلاد، المسيرة القرآنية ترقص وتتبوّل في المسجد، وتحبس الناس لأنها وجدت لديهم مصاحف، وتغلق دور تحفيظ القرآن.
في بلاد الرجولة، يقتلون النساء غيلةً، ويأخذون دارك نهبًا، وإذا طالبت به حكموا عليك بأجرة الحماية.
في تلك البلاد، إذا استلمت أموالًا من حكومتك اتهمك بالارتزاق شخصٌ يملك قناة تلفزيون تتلقى أموالًا خارجية، ونشطاء منظمات تمولها مؤسسات دولية يتهمون الحكومة بالعمالة.
في تلك البلاد، يظهر منتحل رئيس الدولة ليدافع عن شبكات تهريب المبيدات الحشرية الممنوعة، ويتولى تاجر السلاح منصب ديوان المحاسبة.