‏جغرافيا استعمارية لتزوير ماضي الهويات

Author Icon مصطفى ناجي

ديسمبر 12, 2025

في الجهة الشرقية من باريس، عند مدخل مونتروي، ينتصب تمثال كبير لرأسٍ حاسرٍ وعينين غائرتين ووجهٍ أخدودي بلحيةٍ شعثاء، ومكتوب على شاهده: "أبو العلاء المعرّي، شاعر سوري."

أي نعم، أبو العلاء المعرّي صار شاعرًا سوريًا، وليس شاعرًا عربيًا، قبل تَكَوُّن الدولة السورية بقرون عديدة.

ذهنية الدولة القومية لا تستطيع إلا أن تمنح التاريخ ورموزه جنسيات الحاضر. وربما لأنها صانعة الاستعمار ومكينته، فإنها تستخدم العرقية على النحو الذي يناسب هواها: تارة تلغيها وتارة تستحضرها.
فعندما تتحدث عن الأكراد السوريين، فإنها أولًا ستتعامل معهم على أنهم أكراد قبل أن يكونوا سوريين. وعندما تتعامل مع الجزائريين، فإنها ستبحث فيما لو كانوا بربرًا أم لا قبل أن تقول عنهم إنهم جزائريون، لكنها عندما تتحدث عن فرنسي أو إيطالي أو ألماني فإنها تُنقِّي اللقب ليكون فرنسيًا أو ألمانيًا أو إيطاليًا.

لو اطلعنا على الطريقة التي تقدّم فيها هذه الذهنية المفكرين والعلماء الذي ظهروا في الحضارة العربية الإسلامية سنجد أنها تعيد تصنيفهم لا وفق ثقافتهم ولغتهم التي كتبوا بها ومكان تطوّرهم بل إلى أصولهم العرقية. ولهذا فإنها تراهم ليسوا مسلمين ولا عرباً -بالمعنى الثقافيعلى الاقل- بل في الأغلب فرس.

والغريب أن نحات هذا التمثال، عاصم الباشا، وهو سوري الجنسية، نحت مجسّمًا على قياس وجهه ورأسه وشعره هو، وقال إنه لأبي العلاء.
استخدام التاريخ بوعي جيوسياسي على هذا النحو أمر مقرف.
شاهدت مؤخرًا حلقة جميلة جدًا من حلقات الدحيح مكرّسة لـ عبد الرحمن الداخل. كل شيء فيها جميل، عدا قراءاتها لأصول بعض الشخصيات من واقع زائف شديد التوظيف الاعتباطي للهويات المصطنعة وللوعي الجيوسياسي الراهن، كأن يقول عن البربر: أمازيغ.
لا أمانع أن يقول أحدهم اليوم عن نفسه أمازيغيًا، لكني لا أستطيع قبول إسقاط هذه الصفة على أشخاص تقول الكتب التاريخية عنهم إنهم "البربر".
هل ننتزع عنهم ما حضر في كتب التاريخ أو ما كانوا يرون أنفسهم عليه؟
هذه الاستجابة البلهاء للشائع هي الحصيلة المطلوبة من التكريس الأيديولوجي للهوية المصطنعة.
كأن يرفض يمني صفة "يمني" التي لها جذور تاريخية لآلاف السنين، ويعتمد صفة "جنوب عربي" التي تكوّنت دراسياً أو ثقافيًا عند دارسي الجزيرة العربية منذ قرنين على الأكثر، وتكوّنت سياسيًا لمدة لا تزيد عن عشر سنوات في منتصف القرن الماضي في ظل إدارة استعمارية وهندسة استعمارية للمجتمع.
أتحفنا مرة الفنان محمد عبده حين قال إن رسول الله سعودي، وكل الكتب تقول "النبي العربي".

 

زر الذهاب إلى الأعلى