رسائل المواجهة: قراءة نقدية في السلوك السياسي والدبلوماسي

Author Icon الدكتور / علي العسلي

يناير 27, 2025

في ضوء المشاهدات السياسية الأخيرة، تظهر مجموعة من الأنماط السلوكية التي تستوجب تحليلًا ونقدًا جادًا، إذ إنها تحدد مسار الأحداث وترسم ملامح الحلول المستقبلية. هذه الرسائل لا تقتصر على كونها انتقادات، بل تسلط الضوء على اختلالات تستوجب التصحيح.

الرسالة الأولى: اللقاءات الدبلوماسية – محاولات احتواء أم تمرير أجندات؟

الاجتماعات المتكررة بين سفراء الدول الكبرى وأعضاء مجلس القيادة الرئاسي، كلٌّ على حدة، لا تعكس بالضرورة دعمًا سياسيًا أو اهتمامًا بالشأن اليمني، بل قد تكون في بعض الأحيان محاولات لاحتواء الخلافات الداخلية أو تمرير أجندات محددة.

على سبيل المثال، عندما يلتقي السفير الأمريكي برئيس مجلس القيادة الرئاسي، ثم يعقب ذلك لقاء منفصل مع أعضاء آخرين، فمن غير المنطقي افتراض أن الرسائل المطروحة متطابقة، إلا إذا كانت اللقاءات ذات طابع بروتوكولي بحت، وهو ما لا يبدو عليه الحال في ظل غياب مخرجات واضحة لهذه الاجتماعات.

ينبغي على القيادة أن تدرك أن الوحدة الداخلية أقوى من أي ضغوط دبلوماسية، وألا تتحول اللقاءات الفردية إلى مدخل لإثارة البلبلة وزعزعة الثقة بين المواطنين، بل يجب أن تكون وسيلة لتنسيق موقف وطني موحد يعزز قوة التفاوض.

الرسالة الثانية: الخطاب الدبلوماسي بين السياسة والمرونة – هل يستحق النقد؟

التصريحات التي تتبنى لغة دبلوماسية مرنة، مثل: "الحل السياسي هو المخرج الوحيد" أو "الحوثيون قد يكونون جزءًا من الدولة"، قد تواجه انتقادات حادة من الرأي العام، لكنها تعكس واقعًا سياسيًا يفرضه المجتمع الدولي. ومع ذلك، لا بد أن يظل الخطاب متوازنًا بين المرونة الدبلوماسية المطلوبة والحزم الذي يعكس حقيقة الصراع.

مؤخرًا، تعرض وزير الخارجية لانتقادات بسبب مقابلة مع صحيفة عمانية، حيث رأى البعض أن تصريحاته تمثل مخالفة. لكن الواقع أن الوزير لا يتحدث بصفته ناطقًا باسم الجيش الوطني والمقاومة الشعبية، أو الجبهات، ولا هو زعيم حزب ثوري، بل هو سياسي يعكس الوضع السياسي الحالي الذي يخضع لحسابات محلية ودولية معقدة. دعوته للحوثيين إلى السلام والانضمام للدولة ليست موقفًا شخصيًا، بل تستند إلى المرجعيات الدولية، ولكن بشروط واضحة: إنهاء الانقلاب، التحول إلى حزب سياسي، تسليم السلاح للدولة، الانسحاب من المؤسسات الحكومية، وتقديم المتورطين في الجرائم إلى العدالة.

من هنا، على المسؤولين صياغة خطاباتهم بوضوح، بحيث تكون مفهومة محليًا ودوليًا، دون أن تُفسَّر كتراجع عن الثوابت أو تنازل غير مبرر للانقلابين.

الرسالة الثالثة: السلطة والنقد – لماذا يُحتفى ببعض المشاهير ويتم تجاهل المفكرين؟

إحدى الإشكاليات الكبرى في إدارة الحكم هي أن السلطات غالبًا ما تكون أكثر حساسية تجاه النقد من اهتمامها بالكفاءات. فالذين يسعون لتقديم رؤى إصلاحية يتم تهميشهم، بينما يحظى الصاخبون والناشطون بالاهتمام والترويج، حتى لو لم تكن لديهم معالجات وحلول فعلية.

على سبيل المثال، رأينا مسؤولين يمنيين في الرياض يحتفون بمواطن أمريكي من أصل يمني وكأنه وزير خارجية الولايات المتحدة القادم، بينما يتم تجاهل العشرات من الكتاب والمحللين الذين يقدمون رؤى جادة لإصلاح الوضع. بل إن بعض الناشطين في أمريكا يحظون باهتمام السلطة أكثر من الخبراء المحليين، حيث يتم الاستماع بعناية لما يطرحون وقد يهرجون ويسيئون، في حين يتم إهمال العقول الوطنية القادرة على تقديم حلول عملية للوطن.

لا يقوم الحكم الرشيد على احتواء المعارضين أو إرضاء المؤثرين فحسب، بل يعتمد على الاستماع للمفكرين والخبراء والاستفادة من رؤاهم في بناء القرار السياسي والاقتصادي أيضًا.

الرسالة الرابعة: تشبث الشعوب بأوطانها – رسالة أقوى من قرارات مجلس الأمن

من سوريا إلى لبنان، ومن فلسطين إلى اليمن، أثبتت الشعوب أن الأرض ليست مجرد موقع جغرافي، بل هوية وكرامة وقرار سيادي. في غزة، شهدنا موجة العودة من الجنوب إلى الشمال رغم المعاناة والدمار، في رسالة شعبية حاسمة ضد محاولات التهجير القسري. هذه العودة أفشلت مخططات التوطين وأبطلت رهانات البعض على تهجير الفلسطينيين إلى الأردن ومصر.

أما في اليمن، فلا تزال معالجة ملف النزوح والعودة غائبة رغم كونه أحد المفاتيح الأساسية لإعادة تشكيل المشهد السياسي. يجب أن يكون ملف عودة النازحين جزءًا من أي رؤية سياسية مستقبلية، جنبًا إلى جنب مع ملفات المساعدات الإنسانية والأسرى، لأن التشبث بالأرض أقوى من أي اتفاقات دولية أو قرارات مفروضة من الخارج.

ختامًا، لا يمكن إصلاح الوضع القائم إذا لم تتغير طريقة التفكير السياسي، سواء في التعامل مع الملفات الداخلية، أو الخطاب الدبلوماسي، أو آلية استيعاب النقد البنّاء. الحل لا يكمن في الاستجابة للضغوط الخارجية، بل في بناء رؤية وطنية موحدة قادرة على فرض نفسها بجدارة واحترام، لا أن تكون مجرد متلقٍّ لإملاءات الآخرين.

ورسالتي المفتوحة لمجلس القيادة الرئاسي والحكومة:
كفى تشرذمًا، فوحدة الموقف أقوى من أي ضغط خارجي. وازنوا بين الدبلوماسية والوضوح حتى لا يُساء فهمكم. استمعوا لأصحاب العقول، لا لأصحاب الضجيج الإعلامي. لا تجعلوا النزوح حالة دائمة، بل اجعلوا العودة خيارًا ممكنًا. اللحظة تتطلب قرارًا شجاعًا: إما أن نصنع واقعنا، أو يفرض علينا الآخرون واقعًا لا يناسبنا.
والسلام عليكم، ومنتظرون تفاعلكم!

زر الذهاب إلى الأعلى