خيانة الفكر والضمير: نقد لاذع لقادة الحزب الاشتراكي اليمني وتجاهلهم لعبد الإله القدسي
في هذا السياق المأساوي، حيث يتحدث الرفيق والصديق أحمد القاضي عن الظروف التي أحاطت بعبد الإله القدسي، المثقف اليمني البارز الذي فقد دعم الجميع حتى من حزبه الاشتراكي، تبرز حقيقة مؤلمة عن الأحزاب السياسية في اليمن، والتي كانت في لحظة تاريخية مهمة قد أهدرت قدرات شعوبها، وخذلت مثقفيها وعقولها النيرة.
نعم، من المهم الغوص في الانتقادات التي يمكن توجيهها لقادة الحزب الاشتراكي، وتلك التحديات التي واجهها عبد الإله القدسي كأحد أعمدة الثقافة اليمنية.
منذ البداية، يظهر الحزب الاشتراكي اليمني، الذي كان في فترة من الفترات القوة السياسية المسيطرة في الجنوب، كأداة لاحتكار السلطة، وليس كحامل لمشروع ثقافي حقيقي يعكس تطلعات الشعب.
كان الحزب يشدد على قضايا الطبقات الاجتماعية والمساواة الاقتصادية، لكنه في كثير من الأحيان غفل عن الحاجة الماسة لتوفير بيئة ثقافية ناضجة.
فقد اقتصر دوره على "برقيات العزاء"، كما وصفها القاضي، مما يعكس ضعف الحزب في تقديم الدعم الفكري والمعنوي للرموز الثقافية والوطنية.
وهذا قد يكون نتيجة لتخلي الحزب عن أدوار كثيرة من المفترض أن يضطلع بها.
نعم، لم تكن شعاراتهم عن الحرية والعدالة أكثر من كماليات باردة تزين خطاباتهم السياسية، بينما الحقيقة أن الحزب كان يعاني من عجز حقيقي في الاستجابة لاحتياجات المجتمع المثقف.
عبد الإله القدسي، هذا المثقف الذي كانت أفكاره تنبض بالحرص على بناء وطن ثقافي في ظل ظروف سياسية مضطربة، لم يكن مجرد شخصية فكرية عابرة.
ولقد كان الرفيق الكبير عبد الإله القدسي أحد الذين آمنوا بقدرة الفكر على تغيير الواقع وتوجيه الأفراد نحو إشاعة مناخ من التنوير والوعي الاجتماعي.
لكنه، وُوجِهَ في النهاية بالخيانة من قِبل أولئك الذين كانوا ينبغي أن يدعموه، وهم قادة الحزب الاشتراكي. وهو من أهم المثقفين اليمنيين الذين انتموا لحزبنا العظيم الحزب الإشتراكي اليمني.
غير أن هؤلاء القادة مازالوا مشغولين بالحفاظ على سلطتهم بدلا من الاهتمام بالتطور الفكري والثقافي للبلاد.
كذلك فإن إهمال المثقفين داخل أي حركة سياسية يعد فشلا ذريعا.
بل في حالة الحزب الاشتراكي، لا يمكن إنكار الدور الهام الذي لعبه في فترة معينة من تاريخ اليمن، لكن من الواضح أن هناك قصورا في تواصله مع مفكريه وشعرائه وفنانيه.
فالحزب، الذي كان يعاني من صراع داخلي عميق، بدا في النهاية عاجزا عن تقدير قيمة الفكر والإبداع في بناء المجتمع. ولقد تجسدت هذه المفارقة في إهماله للقدسي وغيره من المثقفين الذين كانوا يشكلون ضمير الأمة اليمنية.
وفي النهاية، تم التذرع بالظروف الاقتصادية والسياسية لتجاهل هؤلاء المثقفين، وكأن الكلمة لا تعني شيئا أمام الحسابات السلطوية. بينما تستلم عديد قيادات في الحزب الإشتراكي اليمني مخصصات شهرية بعشرات الآلاف من الريالات السعودية.
فيما ما يزيد من قسوة هذه الحقيقة التي لا يمكننا التغاضي عنها هو أن الحزب الاشتراكي كان قد روج للعدالة والمساواة، لكنه في حقيقة الأمر كان يعامل الرموز الثقافية كعبء غير ضروري، مما أدى إلى الإحباط العميق لدى العديد من المثقفين مثل عبد الإله القدسي.
ولذا لم تكن برقيات العزاء أكثر من محاولة لتهدئة الضمير في وقت متأخر. كانت أشبه بمحاولة لتغطية الفشل.
في الحقيقة كان القدسي يرى بوضوح أن الظروف التي أحاطت به لا تتناسب مع طموحاته ولا مع رسالته الثقافية، وألقى سؤاله المر الرفيق والصديق أحمد القاضي"هل هذه البلاد لا نستحقها أم هي لا تستحقنا؟" وكأنما يعبر عن قسوة المعاناة، ليس فقط بسبب خذلان الحزب له، بل أيضا بسبب الخذلان الذي يتعرض له المثقف في اليمن بوجه عام.
على إن عيش عبد الإله القدسي" شريفاً وموته شريفا" في هذا السياق المؤلم لا يعني فقط وفاته الجسدية، بل يمثل نهاية لحقبة من التفكير المستنير والمثقفين الذين دفعوا ثمن التزامهم الفكري.
بل إذا كان هناك من دروس يمكن تعلمها من حياة القدسي، فهي أن السياسة يجب أن تعترف بالثقافة كعنصر أساسي في بناء الدولة، وأن أي حركة سياسية عاجزة عن تبني المثقفين داخلها ستكون مجرد ظلال فارغة للمثل العليا التي ترفعها.
"أنهى القُدْسِي دراسته في الاتحاد السوفيتي تخصص صحافة، وبدأ مشوار المعاناة والتعب في الوظيفة وتربية الأبناء ورعاية الأسرة.
وَزَّعَ وقته بين الصحافة والأدب كفقيه لغوي يقوم بمراجعة وتصحيح المفاهيم للعديد من الكتب والأبحاث والمقالات الصحفية.
عمل في العديد من الصحف، وواصل إبداع القصيدة والنقد."
"ارتبط بالشاعر الكبير عبد الله البردوني كسكرتير وقارئ ،وكان يقوم بتلقي قصائد ومقالات ومقابلات شاعر اليمن الكبير البردوني حتى رحيله."
بل أنه حسب وصف مربي أجيال من الصحفيين اليمنيين الأستاذ عبد الباري طاهر نقيب الصحفيين اليمنيين لعدة دورات فإنه "المبدع والفقيه اللغوي والمثقف والنبيل المتعدد المواهب عطاؤه وافر، ومعرفته عميقة وواسعة.
كثير من الإصدارات الثقافية والأدبية والصحفية مَرَّ عليها قلم المراجع المصحح والناقد عبد الإله القدسي.
كان والده من المشهود لهم بالشجاعة والذكاء. فعندما شهد مسئول كبير أمام الحمدي ببراءة شيخ مُتهَم بالاختطاف عَلَّق القُدْسِي الأب: هذه شهادة قاضٍ لشيخ.
والشيخ هو رأس التراتب الاجتماعي، وليس السيد أو القاضي الموظفان."
وها أننا ننقد قادة الحزب الاشتراكي كنقد لصراع السلطة الذي أعمى أعينهم عن الجوانب الإنسانية والثقافية في المجتمع.
بينما كان يجب على الحزب أن يعترف بقيمة الفكر الثقافي ليس فقط كأداة للتوجيه الاجتماعي، بل كركيزة أساسية للثورة السياسية الحقيقية.
ولكن في نهاية المطاف، لم يكن لهم رؤية واضحة سوى الحفاظ على قبضتهم على السلطة، وهو ما جعلهم يتجاهلون الفكر والثقافة باعتبارها رفاهية لا أهمية لها.
نعم ، إن الرفيق والصديق العزيز الراحل عبد الإله القدسي، يشهد على جرح عميق في جسد الثقافة اليمنية، ويثير تساؤلا حول مكان المثقف في هذا الصراع المرير بين الأحزاب السياسية كحزبه الحزب الإشتراكي اليمني والواقع المعيش في اليمن.