معن دماج.. فيلسوف النقاء الذي اختبر العالم دون أن يتلوث به
طبعا في زمن تتسارع فيه الإدعاءات وتتراكم الأقنعة، يبرز معن دماج كاستثناء أخلاقي وفكري نادر، كأنه سليل لحظة نقية انفلتت من التاريخ لتُثبت أن الرقي الشخصي والمعرفة العميقة يمكن أن يلتقيا في شخص واحد دون ادعاء، دون تصنع، ودون أي صخب.
والشاهد إنه ابن جيل من الآباء الأوائل الذين زرعوا في أبنائهم قيم الصبر والاتزان والوفاء، فجاء هو كزهرة برية في حقل مُتعب، لا تزهو إلا بالمعنى، ولا تُغريها أضواء العابرين.
والحق يقال إن القات الأثيوبي العظيم قد لا يكون مجرد نبتة مضغ، تمنحني النشوة والهمة، بل أشبه بعدسة روحية تُعيد ترتيب ذاكرتي ومشاعري، لتدفعني إلى تأمل أولئك الذين مروا في حياتي بهدوء، وتركوا أثرا عميقا من دون أن يطلبوا شيئا في المقابل.
وحين يُذكر اسم معن في هذا السياق، لا يُستدعى لأنه فقط "شخص جيد"، بل لأنه نموذج نادر لامتزاج الأخلاق بالفكر، والتواضع بالمعرفة، والحضور بالصمت.
بمعنى أدق لم يكن معن يوما من أولئك الذين يختبئون خلف تنظيراتهم الأكاديمية أو خلف أسوار الجامعات، رغم أنه خريج واحدة من أعرق الجامعات في تونس في علم الاجتماع. بل لقد حمل معه علم الاجتماع لا كمجرد تخصص دراسي، بل كعدسة يرى من خلالها الإنسان في هشاشته ومقاومته، في تناقضاته وجماله.
ولكن المدهش في شخصية معن، ليس فقط علمه العميق، بل الطريقة التي لا يتفاخر بها أبدا.
فهو نقي إلى درجة أن معرفته تبدو امتدادا لطبيعته غير المتكلفة، وليست استعراضا لها. فهو لا يتحدث ليثبت، بل ليسأل.و لا يُجادل ليفوز، بل ليفهم. ولذلك، لا أحد يروق لنا في اختلافاتنا كما يروق لنا هو.
من أصدقائه القساة إلى رفاق لا يقدرون.. تحمل معن الكثير بصمت. لم يشتكِ، لم يبتعد، لم يُشهر قلبه المجروح. بل ظل مبتسما، معلما، نبيلاً.
وكأن صبره ينبع من نبع داخلي لا ينضب. بل في زمن سريع الغضب، متوتر الردود، هش التفاعل، وبارع في تخوين المختلف ، يبقى معن واحدا من القلائل الذين يمكنك أن تختلف معهم دون أن تفقد ودهم. وهذا بحد ذاته رفعة نادرة، لا يقدر عليها إلا من تمرن على اتساع القلب وسماحة النفس.
كذلك من السهل أن يُدرّس أحدهم مادة في الأخلاق أو أن يتحدث عن "قيم الفضيلة"، لكن من الأصعب أن يُجسد تلك القيم في حياته اليومية، في ردوده، في مواقفه الصغيرة قبل الكبيرة. ولقد اختار معن أن يعيش أخلاقه بصمت، بدون شعارات. ومثله مثل الماء، لا يصنع ضجيجا لكنه يغسل كل شيء يمر به.
صديق يليق بالوفاء، ورفيق لا يعرف الحقد، وإنسان لا تشعر معه بالخوف من سوء الفهم.
ومن هنا فإن الاختلاف معه لا يُشبه الصراع، بل يُشبه نقاشا ممتعا بين قلبين يعرفان كيف يُصغيان لبعضهما البعض، حتى وإن اتجهت أفكارهما لمسارات متباينة.
بالتأكيد ربما نحب معن، لا فقط لما هو عليه، بل لما يجعلنا نحن عليه حين نكون إلى جانبه. هو مرآة ناعمة لنسختنا الأفضل، فوجوده لا يُشعرنا بالمنافسة، بل بالسكينة. ولا يجعلنا نُجبر أنفسنا على التبرير، بل يدفعنا بلطف لأن نكون صادقين.
وفي عالم افتراضي أكثر منه واقعي يزدحم بالأقنعة والصراخ، تظل رفقة معن بمثابة استراحة نقية. فهو لا يفرض رأيا، ولا يتعالى بمعرفة، ولا ينسحب حين يشتد النقاش. بل هو حضور أخلاقي قبل أن يكون فكرياً.
وفي الحقيقة حين نتأمل في سيرة معن، نستطيع أن نلمح ملامح جيل بأكمله. جيل تشكل في فجر الطموحات الكبرى، في ظل آباء مثقفين ومقاومين ومربين، آمنوا أن القيم لا تُدرس فقط، بل تُعاش. جيل لم يتلوث بالضجيج الرقمي، ولم يُرب على ثقافة الاستعراض.
بمعنى آخر هو ليس نبتا طارئا، بل امتداد طبيعي لأشجار عميقة الجذور، جعلت منه هذا النموذج الذي نحبه، نحترمه، ونحلم أن نُشبهه.
ولستُ بحاجة لأن أقول إننا محظوظون بوجود شخص كـمعن دماج بيننا، بل الأجدر أن نقول: نحن محظوظون لأن في زمن الفوضى، لا تزال هناك شخصيات تُذكرنا أن النُبل ليس خرافة، وأن الأخلاق ليست رفاهية، وأن الفكر يمكن أن يكون ناعما بلا ضعف، عميقا بلا تعقيد، ومتواضعا بلا نقص.