الريال اليمني... عملة تبحث عن وطن
طبعا في اليمن، كل شيء قابل للتعويم: الكرامة، السيادة، بل وحتى العملة الوطنية.
فكلما استبشر المواطن بحكومة جديدة، هرع إلى محلات الصرافة ليشاهد حفلة "جلد الريال"، فيما الدولار يتراقص طربا، والريال يقف عاريا على الرصيف يمد يده: "هل من مُنقذ؟"
ولكن من المسؤول عن سعر الصرف؟ سؤال عبقري، تماما كمن يسأل: من المسؤول عن اختفاء الديناصورات؟
و في اليمن، تذبذب سعر الصرف ليس عرضا اقتصاديا، بل هو مسلسل درامي، بطولة الصرافين، وسيناريو من بنات أفكار مراكز النفوذ، وإخراج فوضى رسمية تتقن فن دفن الرأس في الرمال.
البنك المركزي؟ غائب... مرة بالمرض، ومرة بالإقالة، ومرة بـ"السفر المهم خارج البلاد"، ومرة لأنه ببساطة مغلوب على أمره.
أما تجار العملة، فهم النسخة اليمنية من ذئاب وول ستريت، لكن دون البدل الرسمية، يرتدون "العسيب" ويجلسون في ظل مقاهي الإنترنت، يحددون مصير الريال بأسعار بيع وشراء تفوق إبداع سلفادور دالي في خلق الفوضى داخل لوحاته الفنية.
إما ودائع الخليج؟
فمسكنات قصيرة الأجل اذ حين تتحدث الحكومة عن "وديعة جديدة"، ترتجف خزائن الصرافين من الضحك.
فهؤلاء يعرفون أنها مجرد محطة عبور نحو جيوب الكبار، وأسطوانة مهدئة تُبث عبر الإعلام الرسمي لطمأنة الشعب بأن الريال "سوف يتعافى".
لكن، بدلا من التعافي، يُحقن الريال بمخدر خارجي ثم يُترك ليواجه الذئاب بمفرده.
مثلا سعر صرف ثابت... والأسعار تطير فدعونا نضحك قليلا :
تذكروا حين استقر سعر الصرف في صنعاء على 600 ريال للدولار، كان سعر علبة "نيدو" 12 ألفا. ثم نزل الصرف إلى 550، وارتفع "النيدو" إلى 12,500. واليوم استقر أكثر على 540... والنيدو بــ15 ألف.
نعم، إنها معادلة يمنية خالصة: كلما نزل الدولار، ارتفعت الأسعار! والنتيجة؟ الريال مستقر، لكن جيب المواطن في غرفة الإنعاش.
والحق يقال إنه اقتصاد ظل أكبر من الدولة فحين تتحدث عن الصرافين، لا تتحدث عن تجار عملة فحسب، بل عن دولة داخل الدولة.
بمعنى أدق:
الصرافون يمتلكون شبكات مصالح، مافيات تهريب، علاقات واسعة مع النخبة، وفوق ذلك، حاسة شم حادة تلتقط رائحة أي قرار اقتصادي قادم، فيُعدون عدتهم للانقضاض عليه.
أما البنك المركزي، فيبدو أحيانا كمؤسسة خيرية توزع الودائع على مصارف خاصة بدلا من أن يحمي بها الاقتصاد.
ثم لا ننسى"الفساد الدستوري":
فمن النيابة حتى النفط الفساد في اليمن لم يعد مجرد ظاهرة، بل أصبح أحد بنود الدستور غير المكتوب.
وأما القضاء، المفترض أن يكون الحامي لحقوق الناس، أصبح من أول من يمارس النهب المشروع.
وأما المؤسسات الإيرادية، فقد أصبحت حقول نفط خاصة تُدار من هواتف شخصية، فتفر الأموال إلى خارج النظام المصرفي، ليضطر البنك المركزي لاحقا إلى طباعة المزيد من الريالات، ما يعني مزيدا من التضخم، ومزيدا من "فقر مدقع بحماية رسمية".
وهكذا للأسف الشديد:
عملة بلا سيادة... ووطن بلا إرادة ، إذ لا يمكن لعملة أن تستعيد عافيتها طالما تُطبع من عدن، ولا تُعترف بها في صنعاء، ويُهرب منها النفط، وتُجنى الإيرادات خارج البنك،.
وعليه كيف لنا أن نتحدث عن سعر صرف ثابت في بلد لا يملك سياسة مالية، ولا إرادة سياسية موحدة، ولا حتى كهرباء لتشغيل أجهزة العد في البنوك؟
الحل؟ لا يوجد! أو لنكن أكثر إنصافا:
الحل موجود لكنه يحتاج إلى دولة. دولة تضع يدها على الموانئ، وتمنع التهريب، وتُجبر الجميع على توريد الإيرادات، وتعيد تصدير النفط وتوقف طبعات العملة العشوائية، وتضرب مافيات الصرافة بيد من القانون، لا ببيانات الاستنكار.
لكن هذا "الحل" كما تعلمون... يشبه الحلم اليمني: جميل، نبيل، ولكنه مؤجل إلى إشعار غير معلوم.
والشاهد أن الريال ليس هو المشكلة المشكلة في من يحكم الريال، من ينهب باسمه، من يزعم حمايته ليذبحه على مذبح الجشع.
فالريال اليمني ليس مجرد ورقة، بل قصة وطن قُسم بسيف الدولار، ومزقته شهوة السلطة، ونُكل به في أسواق سوداء، تديرها بيادق الفساد تحت حماية غبار الحرب.
وحد وصف خبير مصرفي ان اقتصاد اليمن حاليا هو "اقتصاد المساومة... في بلد تموت فيه العملة خجلا"
ويوضح" لا ينهار الاقتصاد فقط، بل ينزلق بانسيابية مؤلمة نحو قاع لا قاع له. فلم يعد الريال مجرد عملة، بل تحول إلى رمز وطني للخذلان".
أي تنكمش قيمته كما تنكمش أحلام الناس، وتتمدد السوق السوداء كما تتمدد بطون الجوعى.
تحديدا "البنك المركزي، المفترض أنه العقل المالي للدولة، تحول إلى غرفة صدى لتصريحات باهتة لا يسمعها إلا موظفوه، في حين أن القرار المصرفي يعيش حالة انفصام جغرافية:
في عدن شيء، وفي صنعاء شيء آخر، وما بينهما، تتكاثر الأسواق السوداء كما تتكاثر النكات السوداء على لسان المواطن.
بمعنى آخر فإن عدم إلغاء العملة القديمة كان أشبه بعملية "بتر ساق مريضة" دون تخدير... لكن انتهى الأمر بأن أصبح ال..حوثي، الذي لا يعرف الاقتصاد إلا من باب "الخُمس"، أكثر تماسكا ماليا من الحكومة التي تتقن فقط طباعة الريال وكأنها تطبع مناديل ورقية.
أما مجلس القيادة الرئاسي، فحدث ولا حرج.
ثمانية رؤوس... بدون رؤية. ثمانية كراسي... بلا طاولة. وكل منهم يجر البلاد نحو هاويته المفضلة، حتى بات المواطن لا يطالب بتغيير الأشخاص بل بتغيير الفكرة: هل هناك دولة حقا أم فقط "حكومة تعقد اجتماعات حول انهيارها القادم"؟
على إن تغيير رئيس الوزراء؟ جميل...
لكن كما لو أننا نغير سائق حافلة بدون مكابح وهي تتدحرج نحو الجرف. فلا أحد يهتم بمن يقود، الكارثة الثابته في الطريق الصعب.
وهكذا ثلاثة رؤساء وزراء تعاقبوا، وكل واحد أتى ومعه "وصفة علاجية" جديدة، تشبه وصفات العطار التي تداوي السرطان بالحلبة والزنجبيل.
والنتيجة؟ تضاعف الصرف، وتضاعف الفقر، وتضاعفت صلوات الناس طلبا لرحمة السماء بعد أن يئسوا من الأرض.
لنخلص إلى أن المشكلة ليست في من يحكم، بل في غياب من يعرف كيف يُحكم.
والمصيبة أننا، مع كل تدهور، نُقنع أنفسنا أن الأسوأ قد مضى... لكن الواقع يثبت أن الأسوأ دائما في الطريق.!
فيا أيها المسؤولون، إن كنتم تبحثون عن سبب انهيار الريال... انظروا إلى المرايا، ستجدونه واقفا حزينا هناك، يلوح لكم بسخرية.!