إيران العمائم السُود !!
أتذكر آية الله الخُميني ، وثورته على الشاه ، في فبراير من العام ١٩٧٩م . كُنَّا صغارًا في سن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، وكُنَّا في تلك المساءات نتحلق حول المذياع؛ لنستمع لأذان إذاعة طهران. لأول مرة نكتشف أن هناك اختلافًا في أذانهم عن أذان المسجد في قريتنا.
وقفنا منذهلين من إضافة: "أشهدُ أن عليًّا ولي الله". ومع دهشتنا، اعتبرنا المسألة عادية، حتى إننا لم نسأل أو نطلب تفسيرًا لإدخال ' علي بن أبي طالب " في تراتبية الدعوة للصلاة.
المهم لفتيان مراهقين هو أن إيران أضحت جمهورية إسلامية حليفة ؛ فيكفي أن تسمع الأذان من أثير إذاعتها . وهذه سابقة تُحسب لآية الله الخميني ورفاقه الثائرين على الشاه ونظامه الملكي السلالي.
وإزاء ما حدث ، كان لا بد أن نفرح ونتفاءل بإيران وبثورتها وإذاعتها، لِحد أن اسم الخُميني أُطلق على عديد من الرجال في مختلف القرى والمُدن.
وزاد إعجابنا بهذه الثورة عندما أعلنت مناهضتها للكيان الصهيوني ولأمريكا "الشيطان الأكبر"، داعمةً من اليوم الأول للقضية الفلسطينية ، ولسُبُل تحريرها من المحتلين الصهاينة. وكان حصار السفارة الأمريكية في طهران من المشاهد المؤثرة التي لا تُمحى من ذاكرتنا.
دارت عجلة الزمن، وإذا باندلاعِ الحرب بين إيران والعراق. وبما أن النظام في جنوب اليمن كان موقفه داعمًا ومؤيدًا لإيران أسوة بالنظام السوري، فقد سرنا في فلك الدعاية الرسمية. والشعوب – مثلما قيل – على دين ملوكها.
إيران العمائم السُود ليست إيران محمد مُصدَّق الثائر بمنهجه وأسلوبه المُتحضِّر ؛ فأبى نظام الشاه الموالي للغرب الديمقراطي أغتياله غيلةً وخسةً ، رغبة في تصفية خصومه السياسيين. ، وإمعانًا في إذلال شعبه ، وبكسر إرادته في اول تجربة ديمقراطية يمارسها بحرية ونزاهة .
ومع هذا الفارق ، وهذه الحقيقة المُرّة، انطلت الخديعة على الكثير من الساسة ورجال الفكر والثقافة .
فالشاعر " أودنيس ' لم يُخفِ إعجابه ونصرته لثورة منبثقة من المساجد، وزعيمها واعظ وإمام وخطيب .
فمع رفضه التام للخطاب الديني في شؤون الحكم والسياسة، إلا إنه هنا – ولأول مرة – يغضُ الطرف عن الإمام وثورته وخلفيتها الدينية الطائفية، وكذا جوهرها "ولاية الفقيه": الإمام الحاضر إنابةً عن الإمام الغائب المختفي منذ قرون في سرداب سامراء.
وبكل تأكيد، رسخت هذه الصورة الإيجابية في أذهاننا لفترة زمنية. فليذهب نظام البعث وزعيمه صدام حسين إلى الجحيم ! لا عصبية في المواقف السياسية ؛ فطالما كان العراق حليفًا لأمريكا والخليج ، فهذا كفيل ببُغضُ نظام العراق ، وكل من حالفه أو دعمه.
وقبل أن تتكشف الأمور وتتضح الرؤية، بقينا مؤيدين لإيران ولحقها في امتلاك السلاح النووي . ففي كافة الأحوال، كان الاعتقاد السائد أن إيران دولة منَّا وإلينا؛ فلا يجوز أن يكون الاختلاف بين المذهبين السني والشيعي أساسًا لأي علاقة أو تقييم.
المفكر العربي فهمي هويدي ، في كتابه البديع "إيران من الداخل" الذي ألفه ونشره بعد ثورة إيران ، ووثق فيه لحظات مهمة وحساسة ، ودون فيه عصارة جهده لتاريخ إيران وطبيعة مكوناته الاجتماعية الإثنية والدينية واللغوية ، وكذا انطباعاته من وحي مشاهدته ومعايشته للحدث أثناء الثورة وبعدها .
وأيًّا يكن، ما لفت انتباهي هو قوله: إن العرب أخطأوا في تقديراتهم، وكان ينبغي أن يتقاربوا مع النظام الإيراني الجديد . فبسبب هذه القطيعة وقعت حرب العراق وإيران، وبسبب الحرب تطورت القطيعة إلى انقسام حاد، أفضى إلى خروج المارد من قمقمه إلى محيطه الإقليمي.
وإذا ما أخذنا بمنطق هويدي فإن إيران لم يكن في تفكيرها أو أجندتها تصدير الثورة إلى لبنان وسوريا، ومن ثم العراق واليمن في مرحلة تالية.
وعمومًا، يُحسب لثورات الربيع العربي أنها كشفت الوجه الحقيقي الذي تدثرت به إيران الملالي . فالعرب علِّتهم أنهم لا يمتلكون مشروعًا وطنيًا أو قوميًا، ضِفْ إليها علَّة العاطفة الجامحة المستحكمة بالحواس والمشاعر، لا بالغايات الكبيرة أو المصالح المشتركة.
لهذين السببين تعاطف الكثيرون مع إيران، ليس محبةً وشغفًا بعمائم ملاليها، وإنما كراهيةً وبُغضًا لإسرائيل وأمريكا وجرائمهما بحق الشعب الفلسطيني.
فضلًا عن أن إيران هنا كان يمكنها أن تكون الدولة المسلمة لزعامة الجبهة المناوئة لدولة الكيان الصهيوني ، ولشغل المساحة الفارغة التي خلقها غياب مشروع الدولة العربية الوطنية أو القومية .
ولأن إيران في الواقع لم تعد إيران المستوطنة الذاكرة البعيدة أو أنها تماثل إيران المأمولة ؛ فالأحداث الحاصلة في أكثر من بلد عربي برهنت عن هوة مفزعة ، ثمة مسافة كبيرة بين العرب والجارة إيران .
فما وقع في لبنان والعراق وسوريا واليمن كان كافيًا للحُكم والإدراك ، فصواريخ إيران قبل أن تسقط في تل ابيب ، سقطت في مدن عراقية ولبنانية وسورية ويمنية وسعودية ، وأكثر من ذلك طالت المطارات والموانئ وحقول النفط والغاز ، فلم تسلم منها حتى السفن التجارية المدنية السالكة الخطوط الملاحية البحرية .
كما ومليشيات إيران قتلت ، وروعت ، ودمرت ، ونكَّلت بالملايين وبأكثر من بلد عربي .
وبرغم هول المأساة الناتجة عن محاولات نظام إيران تصدير ثورة مختزلة بمذهب وشعائر وخطاب ديوغماتي فاسد منتهك لحق البشر في العدالة والمساواة والحياة الحرة الكريمة ؛ ظل هنالك تحفظ ما حال دون الابتهاج أو التشفي بالهزيمة .
نعم ، قطاع واسع من العرب وجد ذاته ما بين رذيلتين ، بين عدوان كيان صهيوني محتل لفلسطين ، وبين نظام كهنوتي ثيوقراطي استعبادي سلالي .
ربما قال البعض أن نظام إيران اخف وطأة من نظام إسرائيل ، وفي كلا الحالتين كلاهما قتلا ودمر وشردا الملايين ، وهذا ما لا يغفره الضحايا .
وأيًا كان تعاطفنا مع إيران، فهذا التعاطف مبرره كراهية الكيان الصهيوني وبُغض جرائمه المروعة المُوقِظَةُ لضمير الإنسانية جمعاء.
وعندما ضُرِبَت إيران ، لم نفرح لضَرْبِها مثلما فرحنا بثورتها على نظام الشاه . كما أننا لم نحزن ندامةً على خسارة دولة جارة مسلمة لقدرتها النووية ، أو حسرةً بجعلها أشبه بأسد يزأر دون أنياب أو مخالب .
وفي هاتين المفردتين – الفرح والحزن – دلالة كافية وواعية على أن إيران مختلفة ماضيًا وحاضرًا . فشتان بين سرورنا بإسقاط ثورتها للملك العنصري المتعجرف محمد رضا بهلوي ؛ وبين مشاعرنا المبهمة القلقة الباهتة الحزينة الفرحة بسقوط جدار من الزيف والتضليل والعبث والمقاومة الكاذبة .
ختامًا ، أصحاب العمائم السُود أثبتوا للقاصي والداني أنهم أسوأ بكثير من نظام الشاه الذي كان عنصريًا مفاخرًا بأصله الفارسي ، وبنظرته الدونية للعرب باعتبارهم رعاة أبل وماشية ، وفق مدونة وزير ديوانه - الشاه وانا - لكنه مع ذلك حفظ شعرة معاويه في علاقته مع جيرانه .
بينما المرشد وثورته وملاليه جلبوا الخراب والدمار والقتل والفتن الى كل الدول المجاورة ، تخيلوا فقط ماهية القرابين والدماء والخراب في العراق وسوريا ولبنان واليمن ؟ .
يكفي أن نتأمل في لبنان والعراق وسوريا واليمن ودول الخليج قاطبة كي ندرك المأساة . ولكم أن تتخيلوا أن إيران دعمت " أرمينيا " في حربها ضد اذربيجان الدولة المسلمة والجارة ، الدولة التي تتحدث اللغة الفارسية ذاتها ، وعقيدتها الشيعية الاثنى عشرية .