دولة عادلة
الدولة العادلة ليست بدعةً مذمومةً أو مجرد رغبةٍ طارئةٍ، وإنما عُدَّتْ غايةً وطنيةً لكل الأجيال اليمنية الثائرة على الإمامة أو الاستعمار، أو ما تلاهما من أنظمةٍ سياسيةٍ تسلَّطَتْ واستبدَّتْ جنوبًا وشمالًا.
في تناولاتٍ سابقةٍ، أذكر أن هناك مَن علَّقَ متباهيًا بكَثْرَةِ القرابين لأجل استعادة الدولة الجنوبية، رافضًا مجرد النقاش أو الحوار عن دولة يمنية موحدة.
البعض من هؤلاء الشباب وَصَفَ دعوتي لدولة يمنية عادلة بأنها إهانةٌ عظيمةٌ لتلك المهج ، وذاك الدم النازف في محراب الحرية والاستقلال، وفق تعبيره.
والحقيقة أن التضحيات الجسيمة، وأيًّا كانت مبرراتها ودواعيها السياسية والأخلاقية، هي في الأساس من أجل دولةٍ عادلةٍ يتشارك فيها جميع أبنائها دونما إقصاءٍ أو تمايزٍ أو تغييبٍ أو ترهيبٍ.
ففي كل الحالات، الظلم لا يولِّد إلا الشعورَ بالحيف والغبن والضيم. وهذا الشعور إذا ما وُجِدَ في أي مجتمعٍ، فإنه كفيلٌ بخلق التذمر والاضطراب والمقاومة عاجلًا أو آجلًا. فليس هناك ما هو أخطر من فقدان المواطنة المتساوية.
الرعيل الأول ثارَ على الإمامة والاستعمار طلبًا لتحقيق العدالة الاجتماعية بين كافة فئات المجتمع، ورفضًا للتفاوت المُسْتَندِ إلى خلفياتٍ إثنيةٍ قبليةٍ دينيةٍ جهويةٍ، بحيث لا يكون هناك سادةٌ وعبيدٌ، أطهارٌ وأدناسٌ ، سلاطينُ ومماليكُ، أعلى وأدنى، وجهاءُ وأتباعٌ.
ورغم أن هذه الدولة العادلة تصدَّرت أهدافَ ثورتي سبتمبر وأكتوبر، إلا أن النظامين — المفترض أنهما يمثلان روح الثورتين — نجحا وأخفقا نسبيًّا.
نجحا في توفير فرص التعليم والتطبيب وغيرها من الخدمات الأساسية، ولو في حدها الأدنى. وبالمقابل، أخفقا في إنجاز العدالة الاجتماعية لكل اليمنيين.
فما تحقق يصعب مقارنته بجوهر الأحلام والأماني التي احتلَّتْ حيزًا واسعًا في ذهنية أولئك الرجال الذين نذروا أنفسهم لتلك المبادئ والقيم النضالية.
فمنذ أكثر من ألفَيْ عامٍ على ولادة جمهورية أفلاطون، وغايةُ مجتمعات العالم تحقيقُ تلك الجمهورية بما تعنيه من مشاركةٍ شعبيةٍ في القرار والقوة والثروة.
نجحت كثيرٌ من هذه الشعوب في إنجاز عددٍ من تلك المبادئ الإنسانية العادلة، فيما تعذَّر على مجتمعاتٍ أخرى تحقيقُ هذه الدولة العادلة، بينها مجتمعاتٌ ما فتئتْ تخوض حروبًا وثوراتٍ في سبيل الدولة العادلة.
خلاصة الكلام: كل شيءٍ يجب أن يُخضَعَ للنقاش والحوار. فالسلاح ربما فرض منطقَه، وهو غالبًا ليس عادلًا .
فإذا لم تكن الثورات أو النزاعات العنيفة غايتُها تجسيدَ حضور العدالة المفقودة وتجسيد قيمها في المجتمع ، فإن التضحيات ستكون هنا تكريسًا لإنتاج التسلط والطغيان، وإنْ تحت شعارات الثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية.
ما يجب أن نفهمه ونستوعبه هو أن كلَّ قطرةِ دمٍ مُهْرَقَةٍ، وكلَّ روحٍ مُزهَقةٍ، هما في سبيل تحقيق العدالة. فسواءٌ كانت الغايةُ استعادةَ دولة الجنوب أو دولة اليمن، ففي المحصلة، التضحياتُ غايتُها واحدةٌ، وهي الدولة العادلة.
وعلى هذا الأساس يمكن القياس ، وبدونه تبقى الثوراتُ والصراعاتُ غيرَ عادلةٍ وغيرَ منصفةٍ ..