القبيلة بين الذم المستحق والخلط المفاهيمي
صفحات التواصل الاجتماعي اليمني تعج اليوم بمنشورات كثيرة تنتقد القبيلة،بل إن بعض الكتّاب البارعين من الشباب الصاعد قال كلمة غريبة في أحد منشوراته، وهي: "على القبيلة أن تختفي!!".
وردًا على هذه المنشورات، أضع بعض التساؤلات، وربما التوضيحات.
أولًا، من قرأ هذه المنشورات التي طفحت بها وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، يدرك أن أول مشكلة تكمن في التعريف:
فما ندري ما هي "القبيلة" التي تتحدث عنها هذه المنشورات؟ أو ما يُعنى بـ"القبلي"؟
وقد تكون تتحدث عن مواضيع مختلفة تحمل نفس المسمى.
فإذا أخذنا الجناح الأكبر من هؤلاء، وهم الذين ينتقدون القبيلة في سياق يضعونها مقابل "المدنية"،فلا شك أن القبيلة هنا مذمومة، وهي شيء يتمنى كل عاقل التخلص منه للانتقال إلى المدنية.
وطبعًا، إذا أردنا أن نكون دقيقين، نحتاج أن نعرّف أيضًا ما هي "المدنية"،ولكننا هنا، وعلى عجالة، لن نكون أكاديميين حادّين، وسنعتبر أن "المدنية" تعني إرساء نظام القانون،
والتعامل ضمن دولة يحكمها قانون، ولا توجد قوى جانبية تؤثر عليه.
فلا شك أن "المدنية" شيء محمود، ويتمناه كل عاقل، بل هي هدفنا الأسمى.
وهناك منشورات أخرى تتحدث عن القبيلة، وربما تحتاج إلى تعريف آخر.
فمثلًا، من يضعونها كإحدى طبقات المجتمع اليمني، فستكون في هذا السياق مذمومة أكثر مما هي مذمومة في السياق السابق، ولا خلاف على ذلك.
لكن ما يبدو أن كثيرًا من هؤلاء الكتّاب غفلوا عنه – ووجب توضيحه رغم بساطته – هو أن القبيلة ليست "أيديولوجيا"،
على الأقل في السياق الذي نناقشه، بل هي "حالة اجتماعية" وُجدت عوضًا عن وجود الدولة (أي عن وجود المدنية كما يسميها الكثير في كتاباتهم).
واختفاؤها ليس قراراً فردياً ، ولا حتى قرارًا حكومياً.
لا يعقل أن يصحو الناس يومًا ويقولوا: "هيا بنا نختفي"، كما قال أحدهم.
وإنما هو تدرّج، مع وجود السبب الذي يجعل اختفاءها ضرورة، وهو الدولة.
وهذا أمر يتطلب أولًا وجود الدولة، ثم يتطلب مرحلة من الزمن تُبنى فيها هذه المجتمعات لتصبح مجتمعات مدنية،
في طور أحدث من طور القبيلة.
فلا يمكن أبدًا أن تضع مواد البناء كومًا معًا وتقول لها: "هيا بنا نصبح برجًا".
أنت تحتاج إلى مراحل، وتحتاج إلى فترة زمنية، وتحتاج إلى مشروع تتحول فيه هذه المواد إلى برج.
وعندما يكون البرج موجودًا، ستكون لبناته هي نفس المواد التي كانت من قبل بشكل عشوائي.
ولو – لا قدّر الله – هُدم البرج، فسوف تعود هذه المواد إلى حالتها الأولى، ولكن بطريقة متناثرة أو عشوائية أو متخلّفة.
وهذا ما رأيناه حصل، مثلًا، في "برج" العراق، الذي كان دولة مدنية.
عندما هُدّ، عاد إلى وضعه القبلي.
وهذه المواد أيضًا موجودة في دول الخليج، ولكنها في طورٍ أصبح أقرب بكثير إلى الطور المدني.
لكنها نفس اللبنات، نفس اللبنات القبلية، غير أنها أصبحت أكثر تطورًا باتجاه الغاية.
ليس لأنهم صرخوا صباحًا: "هيا بنا نختفي"، ولكن لأن الدولة مضت قدمًا في تثبيت أركانها، وترسيخ قانونها، وبالتالي اختفى نظام القبيلة.
ملاحظتي في هذا المنشور، هي أن نُبيّن أن القبيلة هي مرحلة متأخرة من مراحل بناء الدولة،وهي مرحلة نكسة تحصل للدول – وليس دفاعًا عن القبيلة – ولكن لنفهم ما هي القبيلة أولًا.
فبعض النقاشات تدل على عدم وعي.
بل من أغرب ما سمعته أمس، أن هناك من يقول: "يجب على المشائخ أن يختفوا!".
ولا يفهم أن المشايخ موجودون كجزء من نظام القبيلة،وأن القبيلة موجودة بسبب عدم وجود الدولة.
والمناطق التي في اليمن لم تعد فيها القبيلة موجودة، هي المناطق التي وُجدت فيها الدولة.
أما في الأخير، وفي جذور الشعب اليمني كله، فهو مجتمع قبلي.
بعضه تمدّن (أي تطوّر)، وبعضه تأخّر.
وهدفنا اليوم جميعًا هو أن نستعيد الدولة، وأن نبنيها بشكل يجعل هذه اللبنات تتحول من الوضع المتأخر كـ"قبيلة"،
إلى أن تصبح لبنات في برج أجمل وأعلى، وهو برج الدولة المدنية الحديثة.