سودَ الله وجوهكم
مائة وسبعة وأربعون مؤسسة حكومية تورد إيراداتها خارج البنك المركزي، خارج وزارة المالية، خارج الدولة، خارج القانون، خارج الضمير، خارج الأخلاق، خارج الإنسانية، خارج المروءة، وخارج الرحمة.
لم تعد القصة عن 147 مؤسسة حكومية تسرق وتنهب إيراداتها بعيدًا عن البنك المركزي،
القصة أعمق: عن اختفاء الدولة نفسها، عن تحوّلها إلى شبح إداري بلا مضمون،إلى لافتة فوق مبانٍ صامتة، بينما المال العام يتسرب كالماء بين أصابع الغائبين، وهي تنظر إليهم بضمير متعفن.
في بلد يعيش أغلب أهله على فتات الرواتب، وسط انهيار العملة وانقطاع الأمل،تصبح فضيحة الحسابات الخاصة أكثر من مجرد سرقة؛ إنها إعلان عن إسقاطهم لكرامة الشعب، وإسقاطهم للمعنى، وإعلان سقوط فكرة المواطنة، وانهيار العقد السياسي، وتحدي شرعية القبول الشعبي، وذوبان الحدود بين العام والخاص، حتى صارت المؤسسات العامة دكاكين خاصة، يديرها موظفون بلا ولاء إلا لجيوبهم.
من سمح بهذا؟ من صمت؟
فتح 320 حسابًا خاصًا ليس قرارًا عبثيًا، بل منظومة كاملة قررت أن تخفي الحقيقة وتعيش على إنكارها.
الحكومة هنا ليست مغيبة فقط، بل شريكة بالصمت،
والصمت في لحظة الخيانة ليس حيادًا، ولا سياسة، ولا صبرًا، ولا حكمة، ولا فذلكة، بل مشاركة في الجريمة.
هذه ليست أزمة مالية عابرة، هي لحظة تمزق رمزي: حين يكتشف المواطن أن الدولة التي يتعامل معها كل يوم
ليست دولة، بل كيان آخر، يعمل ضد الحياة والكرامة، يعمل ضد المعنى الذي قام من أجله.
حينها ينكسر الرابط النفسي الذي يجعل المجتمع يصدق القانون،ويتحول كل عقد اجتماعي إلى ورقة بلا توقيع.
من هنا يصبح الغضب الشعبي وحده غير كافٍ... المطلوب أن يتحول الغضب إلى معرفة، إلى مشروع بحث عن الحقيقة:
(عن أسماء المؤسسات الـ147؟ من فتح هذه الحسابات؟ من وقع وأمر وسكت؟)
إذا سكتنا اليوم... نصحو غدًا بلا دولة، الدولة الآن ليست سوى سؤال مفتوح: من يمثل من؟ ومن يحمي من؟
الناس لم يعودوا يصدقون الشعارات الفضفاضة ولا الوعود الطرية... إنهم يريدون أفعالًا: إغلاق الحسابات، استرجاع الأموال، محاسبة من تواطأ.
الحكومة إذا لم تستطع فعل هذا، فعليها أن تقوم بما تستطيع فعله على الأقل: كشف أسماء المؤسسات الـ147، من فتح هذه الحسابات؟ من وقع وأمر وسكت؟
أما إذا كانت لا تستطيع السيطرة على هذه المؤسسات ولا حتى كشفها، فعليها أن تتحمل المسؤولية كاملة... وستُحاسَب عليها يومًا ما.
الصمت في هذه اللحظة لا يساوي الحياد، بل الاستسلام.
ومن يستسلم اليوم، سيكتب التاريخ اسمه في خانة "المتواطئين بصمت".
الفضيحة ليست مجرد تهريب إيرادات، بل إعلان موت رمزي للكرامة الفردية والجماعية، موت لفكرة الدولة... والمعنى حين يموت، لا تعيده الأرقام ولا المؤتمرات الصحفية.
إعادته تبدأ من الناس، حين يرفضون الصمت، ويحولون الغضب إلى وعي، والوعي إلى فعل، والفعل إلى سردية جديدة: سردية استعادة الدولة من يد الخيانة.