اليمن من دولة تتنازل إلى سلطة تعاد صياغتها
هناك لحظات صغيرة، لكنها تكشف حجم الانهيار. لحظة كأنك تفقد شيئًا عاديًا، فتكتشف أنك فقدت نفسك كلها.
إطلاق القيادي الحوثي الزايدي واحدة من تلك اللحظات. ليست مجرد قصة رجل خرج من سجنه، بل قصة بلد يتنازل مجبرا عن قراره، عن صورته، عن روحه.
في اليمن، لم تعد الأحداث تعني ما تبدو عليه. الإفراج عن شخص لم يعد إجراءً قانونيًا، بل إعلانًا أن من يملك القوة يملك القرار. أن من يسيطر على الأرض يسيطر على المستقبل.
هذه ليست مجرد صفقة إنسانية أو خطوة عابرة، إنها إشارة واضحة: الدولة فقدت هيبتها، والشرعية وسلطات الامر الواقع بالمناطق المحرره فقدت معناها، والحوثي صار يمسك بالمفاتيح وحده.
الزايدي لم يكن اسمًا عابرًا. إطلاقه جاء متزامنًا مع تراجع البنك المركزي عن قراراته بشان نظام سفت ويحب العمله، السماح للطيران المحمّل بالحجاج الاقلاع الى صنعاء وغيرها الكثير . وكأن الأحداث كلها تتحدث بلغة واحدة: القرار لم يعد قرار الدولة الشرعيه ، بل قرار القوة التي تفرض إرادتها على الشرعيه وعلى مكوناتها .
هذه ليست تفاصيل منفصلة، بل لوحة كاملة تقول: اليمن يسير في زمن جديد، زمن تُدار فيه الدولة من خارج مؤسساتها الرسمية، زمن تتحول فيه الشرعية إلى اسم بلا فعل.
البشر في الهامش
وسط هذا كله، يقف الإنسان العادي في الظل:
الأم التي تنتظر رحلة طيران لزيارة ابنها.
المزارع الذي يحسب سعر العملة كل صباح كأنه يحسب عمره.
الطفل الذي يريد فقط أن يجد مدرسة مفتوحة بلا حرب
هؤلاء لا يسألون من أُطلق، ولا كيف أُطلق، ولا لماذا. كل ما يريدونه هو حياة يمكن أن تُعاش. لكن كل صفقة سياسية تُعقد، وكل قرار يتراجع، يجعل هذه الحياة أبعد وأكثر هشاشة.
إقليميًا، هذا الحدث يرفع الحوثي إلى مستوى “السلطة الحقيقية ويهيمن عليها ”، ويجعل العواصم تتعامل معه بجدية أكبر. داخليًا، يعمّق الإحباط ويُشعر القوى الأخرى بأنها فقدت زمام المبادرة.
حتى المجتمع الدولي، الذي ظل يتمسك بمفهوم الشرعية، صار مضطرًا للاعتراف بأن القوة الواقعية على الأرض تغيّرت جذريًا.
لم تعد الحرب في اليمن مجرد معركة على الأرض. إنها صراع على معنى الدولة نفسها:
هل هي مؤسسة تملك قرارها، أم ظلّ تتحكم فيه جماعة مسلحة؟
هل هي سلطة تصنع القانون، أم سلطة تخضع للقوة؟
هذه الأسئلة هي جوهر ما نراه اليوم. إطلاق الزايدي ليس نهاية صراع، بل بداية نقاش أخطر: أي يمن سيولد من هذا الخراب
إطلاق الزايدي نافذة صغيرة على مشهد أكبر: بلد يكتب فصلاً جديدًا من تاريخه بلغة القوة لا بلغة السياسة.
قد يكون هذا بداية مرحلة تُحكم فيها اليمن بالسلاح أكثر مما تُدار بالقانون، لكن ذلك لا يلغي الأمل. الأمل في أن يستعيد اليمنيون دولتهم أولاً في المعنى قبل أن يستعيدوها في المؤسسات.