حادثتي لم تكن سوى مرآة لواقع أوسع في تعز

Author Icon مصطفى محمود

أغسطس 4, 2025

تعز  المدينة التي وسعتها تضحياتي يوم كانت مُحتلة، تضيق بوجودي وهي مُحرَّرة ،في تعز حين يتحوّل البيت من ظلٍّ للروح إلى سلاحٍ يطعن ساكنيه، تصبح العدالة نفسها متهمة...

فجر يوم الأحد الموافق 3/8/2025م، لم يكن فجرًا بل اقتحامًا لمعنى الأمان ودهسًا لعلاقة الإنسان بمدينته وبيته.. حين داهمنا المسلّحون، لم يأتوا بأسئلة بل بأوامر جاهزة: "خذوهم مباشرة.. إلى أين؟ لا أحد يجيب."

كنا أربعة إخوة، ننام في مبيتٍ صغير، فإذا بنا نصبح متهمين بلا تهمة: اثنان منا مطاردان، واثنان معتقلين بلا جريمة. هكذا تحوّل البيت في تعز فجأةً من مأوى إلى فخّ.

الحكايه.. خصومة عادية بين أخي الصغير وصاحب البيت، تحولت إلى أمر قهري صادر عن (القاضي "تركي" في محكمة شرق تعز)، الذي لم يرَ فينا وجوهًا أو أسماء، بل "ملفًا" مختومًا بكلمة واحدة: إخلاء فوري عاجل النفاذ لأن مالك البيت صديقه وجاره. هكذا، وبجرة قلم، صار البيت جبهة حرب، وصار القانون سلاحًا، وصار القاضي ينسج من نصوص القانون شراكًا لمن يريد الإيقاع بهم، ليصبح الاضطهاد مؤسسيًا.. وليس عشوائياً

في تعز، كما في معظم مدن الحرب، البيوت تُباع مثل الضمائر.
الإيجارات تُدفع بالعملة الصعبة مع كل طلقة، وموجات النزوح تحوّل الناس إلى طوابير بلا مفاتيح. المالك يؤجر السكن بمبلغ، وحين يأتي مستأجر آخر يعرض أكثر، يطرد الساكن الأول بلا رحمة ...

المالك يريد المزيد، والقاضي يمنحه أكثر مما يتوقع: أمر قبض، أمر حبس، أمر إذلال، حكم إخلاء معجّل.. وكأن الحق في السكن صار ترفًا لا يُمنح إلا لأصحاب المال والنفوذ الغاشم.

ذلك الصباح المشؤم لم ينهِ فقط علاقتي بالبيت، بل علاقتي بفكرة تعز نفسها وبالعدالة كلها.
إذا كان القاضي تركي يستطيع أن يسجن أربعة إخوة لأن أحدهم لم يدفع إيجارًا مضاعفًا، فما قيمة أي قانون؟
ما الفرق بين عصابة مسلحة وقرار قضائي إذا كانت النتيجة واحدة: إخراجك من بيتك بالقوة وكسر ما تبقى من كرامتك؟

هذه ليست قصتي وحدي، بل قصة مدينة تُفرَّغ من أهلها، وبيوت تتحوّل إلى فخاخ، وعدالة يُكتب حكمها لمن يملك قبل سماع دفاع من لايملك ، ويُنفذ فيها الإخلاء قبل النطق بالحق.لم يكن القاضي تركي استثناءً، بل نموذجًا لعدالة صمموها الاقطاعيون ضد العمال وشرعنوها الاغنياء افي مجلس النواب ضد الفقراء اى ، عدالة تحمي الأثرياء وتدهس الضعفاء.؟....

اليوم أفهم أنّ البيت ليس مجرد جدران وسقف، بل علاقة ثقة مع المدينة. لكن القاضي تركي وبالقانون كسر هذه الثقة، حتى بالعدالة نفسها، إرضاءً لنافذ أو صديق مالك.
سيبقى اسمه شاهدًا على زمن خجلت فيه البيوت من أن تكون بيوتًا، وخجلت العدالة من أن تكون عدالة.
ولن يُنسى أنّه كتب أوامره على أجسادنا، لا على الورق.

هذه الحادثة لم تكن سوى مرآة لواقع أوسع في تعز: مدينة مثقلة بموجات النزوح من مناطق الحوثيين، حيث انفجرت أسعار الإيجارات وتحولت البيوت إلى سلعة للاستثمار السريع. يُطرد ساكن ليُستبدل بآخر يدفع أكثر، حتى لو كان الثمن أسرة بأكملها تُلقى في الشارع بلا مأوى[1].

حين تصبح العدالة أداة إذلال، بدلاً من أن تكون المحاكم حصنًا للحق، تتحول في كثير من الحالات إلى عصا غليظة بيد أصحاب النفوذ. أوامر الإخلاء تصدر غالبًا بلا إنذار كافٍ، ومع أوامر القبض القهري، يجد المستأجر نفسه بين خيارين: الرضوخ لجشع المالك أو السجن بلا ذنب سوى أنّه "فقير" لا يستطيع دفع ضعف الإيجار المطلوب[2].

وجود قاضٍ يوقع أمرًا قهريًا بسجن أربعة إخوة بلا محاكمة، فقط بسبب خصومة عقارية، ليس مجرد انحراف فردي؛ إنه مؤشر على خلل عميق في بنية العدالة نفسها[3]. يتحول القانون في مثل هذه القضايا إلى أداة بيد الأقوياء، بدلًا من أن يكون سياجًا يحمي الضعفاء.
لقد صار مألوفًا في أغلب مدن اليمن، وخصوصًا تعز، أن تُستخدم الصفة القضائية لمصادرة الحقوق: يتم تجيير نصوص قانونية قديمة لشرعنة طرد المستأجرين أو فرض تعويضات مبالغ بها، بينما لا يجد المتضرر فرصة حتى لعرض قضيته أمام قاضٍ محايد[4].

البيت الذي فقد روحه ،لم يعد البيت جدرانًا وسقفًا فقط، بل ساحة معركة جديدة. في تعز، كما في مدن الحرب كلها، أصبح البيت سلعة، والإيجار عبئًا، والنزوح لعنة إضافية فوق كل اللعنات.
صار الأمان ترفًا، وصار البيت وهمًا باهظًا لا يملكه إلا نافذ أو غني[5][6].

هذه التحولات صنعت طبقة من "أمراء الإيجارات"، يتحالف بعضهم مع شخصيات قضائية أو عسكرية وعصابات، ليحموا مصالحهم حتى لو كان الثمن طرد أسرة بأكملها إلى الشارع أو إلى مخيمات نزوح أشبه بالمنفى[7].
هكذا تُمسخ المدينة: تُفرغ من ناسها وتتحول بيوتها إلى قلاع صامتة تخجل أن تُسمى بيوتًا.

صرخة تتجاوز الخاص إلى العام ،قصتي ليست استثناءً، بل تجسيد لوجع مدينة كاملة، فيها يُفرغ البيت من روحه، ويُجرّد القانون من عدله، ويُحاصر الإنسان بين سطوة المالك وقسوة القاضي.
ذلك اليوم لم يسقط بيتي فقط، بل أسقط إيماني بقيم المدينة نفسها.

نحو عدالة حقيقية

ما جرى لي ولإخوتي مجرد قصة صغيرة أمام آلاف الأسر التي فقدت الأمان السكني بسبب انعدام العدالة الاجتماعية والقضائية، وتفشي ثقافة النفوذ على حساب الإنسان.
لكنّ هذا الجرح الشخصي يجعل السؤال مشروعًا: كيف نعيد بناء مفهوم العدالة في مجتمع مزقته الحرب؟ كيف نضمن أن بيتًا صغيرًا لن يتحول مجددًا إلى سبب لإذلال الناس وسجنهم؟

إن استعادة روح القانون ومحاسبة كل من يتلاعب بسلطة القضاء لمصلحة نافذ ليست ترفًا أخلاقيًا، بل ضرورة للبقاء الإنساني نفسه.
فالبيت ليس رفاهية، والعدالة ليست خيارًا ثانويًا، بل هي حقٌّ جوهري، إن سقط، سقط معه كل معنى للحياة المشتركة.

وفي الختام لايسعني الا ان اسجل جزيل شكري وفيض امتناني لكل من سال عني اخي الاصغر واصبغ عليه غمامه الطمأنيه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع والهوامش:
[1]: تقرير "أزمة السكن في اليمن: الواقع والبدائل"، المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية، 2024.
[2]: مقابلات ميدانية مع مستأجرين نازحين في مدينة تعز – منظمة العون الإنساني، يوليو 2025.
[3]: دراسة "ضعف البنية القضائية في زمن الحرب"، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، 2023.
[4]: مقابلة مع محامين في محكمة شرق تعز، صحيفة "تعز اليوم"، عدد 13 يونيو 2025.
[5]: المادة (56) من الدستور اليمني: "تكفل الدولة للمواطنين الحق في السكن الملائم".
[6]: تقرير البنك الدولي حول "أثر النزوح الداخلي على أسواق الإيجار في اليمن"، 2023.
[7]: مسح اجتماعي لقطاع العقارات في تعز – الهيئة العامة للإحصاء، 2024.

زر الذهاب إلى الأعلى