اليمن: ديناميكية القرار وذاكرة الرئاسة ملامح نظام برلماني يتشكل بصمت
حين أتأمل المشهد اليمني اليوم، لا أرى مجرد حكومة تدير شؤون البلاد، بل ألحظ تحوّلًا هادئًا، كأن اليمن يعيد ترتيب نفسه من الداخل دون ضجيج أو إعلان رسمي. هناك شيء يتشكل في الظل، أشبه برسم واقع جديد، لكن بحبر خفي.
في جانب من الصورة، يقف رئيس الوزراء ووزير المالية سالم بن بريك، مشتغلًا بالأرقام والقرارات. خطواته اصلاحيه حاسمة، كأنه يحاول إنعاش جسد الدولة المنهك بإجراءات تعيد لها شيئًا من حضورها وهيبتها.
وفي الجانب الآخر، يتحرك الرئيس رشاد العليمي في فضاء السياسة الخارجية، يعمل على تثبيت صورة اليمن كدولة ذات شرعية وصوت، وسط عالم لا ينتظر أحدًا.
تحليلي لهذه الثنائية ليست مجرد توزيع مهام بين الداخل والخارج، بل هي بداية تحوّل في شكل الحكم نفسه. حين تتولى الحكومة إدارة الشأن الداخلي، وتُفرغ الرئاسة للرمزية والدبلوماسية، فإننا نقترب من نموذج نظام برلماني لا يُختزل في فرد، بل يتوزع بين مؤسسات.
في هذا النموذج، يصبح البرلمان مركز القرار، والحكومة تنفذ، والرئيس يُشرف ويمثل الدولة خارجيًا. ليس مجرد تعديل دستوري، بل تغيير في فلسفة السلطة: من سلطة مركزية تُنتج الصراع والفساد، إلى سلطة موزعة تُنتج الاستقرار والعدالة والشفافية.
ارى اليد التي تمسك مفاتيح الخزينة، واليد التي تصافح العالم، ترسمان ملامح مستقبل يمني مختلف. ملامح نظام حكم برلماني يتشكل بلا إعلان دستوري ولا بيان رسمي، وكأن البلاد تكتب جمهوريتها الجديده بالفعل، عبر قرارات وزراء وتحركات رؤساء.
لماذا قد يكون هذا النموذج مناسبًا لليمن؟... الجواب لأننا جرّبنا النظام المختلط (الرئاسي–البرلماني) منذ سقوط الإمامة ورحيل الاستعمار قبل أكثر من ستين عامًا، وكانت النتيجة ما نعيشه اليوم من ويلات وخراب.
فالنظام البرلماني ليس مجرد هويه سياسية، بل فلسفة حكم تقوم على الإيمان بأن السلطة إذا تمركزت في يد واحدة، فإنها تخنق الدولة وتقتل روحها. أما إذا توزعت، فإنها تمنح الحياة للمجتمع، وتحوّل الحكم من سلطة فرد إلى عقد اجتماعي يُبنى بين الناس.
في اليمن، حيث كثيرًا ما تحولت السلطة إلى امتلاك شخصي وساحة صراع، فإن توزيع القوة أفقيًا عبر برلمان قوي وحكومة مسؤولة قد يكون الطريق الأنجح لمنع الانفجار بين الفينه واخرى
لكن النصوص وحدها لا تكفي. اليمن بحاجة إلى أحزاب ناضجة، وقوى سياسية تشكل وعيًا وطنيًا جامعًا، وثقافة سياسية تدرك أن الاختلاف ليس تهديدًا، بل مصدر قوة.
البرلمان الحقيقي ليس منبرًا للخطابات العاطفية، بل ورشة عمل لصنع القرار. وربما لهذا السبب بدأ الرئيس ورئيس الحكومة، بدعم دولي وإقليمي، في تصميم الفكرة وتثبيتها على أرض الواقع، تمهيدًا لإعلانها وتنفيذها بالشراكة مع القوى الوطنية.
في بريطانيا، الملك أو الملكة رمزيان، بينما القرار بيد الحكومة المنتخبة. نموذج يستند إلى مؤسسات عريقة صمدت عبر الزمن.
أما العراق ولبنان، فتحول برلمانهما إلى مرآة لانقسامات طائفية ومناطقية، ما أدى إلى تعثر الدولة.
واليمن أمام خيار:
هل يصنع برلمانه ذاكرة بناء ووحدة؟
أم ذاكرة انقسام واحتقان؟
المشهد الراهن: بروفة الغد
ما يفعله سالم بن بريك اليوم ليس مجرد إدارة وزارات، بل تمرين على حكومة فاعلة تستعيد سلطة الدولة وتضبط مواردها.
وما يفعله رشاد العليمي ليس مجرد حركة دبلوماسية، بل تجسيد لدور رأس الدولة كواجهة تمثل اليمن في المحافل الدولية.
تشابك هاتين الديناميكيتين من اجل يُنتجان نموذجًا قريبًا من النظام البرلماني على ارض الواقع ، حيث يتحمل رئيس الوزراء ووزراؤه مسؤولية الحكم اليومي، بينما يظل رئيس الدولة حاميًا للتوازنات الكبرى وواجهة الدولة.
النهاية… سؤال مفتوح
علمتنا الحرب أن السلطة المركزية قاتلة.
والآن، قد يكون البرلمان آخر محاولة لتوزيع السلطة، لا لتكديسها.
لكن يبقى السؤال:
هل نحن، كأمة، مستعدون لأن نحكم أنفسنا معًا؟
هل نمتلك الإرادة لبناء مؤسسات حقيقية، ونثق في الحوار بدل السلاح؟
ربما، في هذه اللحظة، تبدأ اليمن كتابة فصل جديد بلغة العصريه التشاركية والمؤسسات، لا بلغة التفرد والتناحر. وهذا الفصل يحتاج إلى أكثر من قادة وسياسيين…
يحتاج إلى شعب يؤمن بأن الوطن أكبر من أي شخص، وأن السلطة عهد ومسؤولية، لا غنيمة.