الخُمس . الإعاشة:. الشرعية والحوثي. وجهان لنظام امتياز واحد
في الشرعية لا يأتي الفساد دائمًا على هيئة صفقة مشبوهة أو عقدٍ مزوَّر يُوقَّع في العتمة فحسب، بل يتسلّل أيضًا في هيئة "إعاشة" شهرية تُصرف من مال الدولة لأشخاص لا يعملون، لا ينتجون، ولا يظهرون.
لكنهم يتقنون العيش على جراح الجمهورية ونزيف الوطن باسم "الجمهورية" و"الوطن"، ويحوّلون هروبهم من الحوثي إلى مهنة رسمية في الخارج، إلى وظيفة تُدرّ دخلًا بالدولار أو الريال السعودي. وبهذا المنطق جعلت الشرعية الهروب من الحوثي بطولة تستحق مكافأة شهرية بالدولار من الميزانية العامة، فيما جعلت الصمود في الداخل ضد الحوثي عارًا وطنيًا يُعاقَب عليه الشعب بالجوع والذل والهوان.
هنا لا يبدو الفساد مجرد خلل إداري، بل يتحوّل إلى بنية أخلاقية مقلوبة: يُقدَّم كحق، كتعويض، كنوع من "التضامن السياسي" مع كل هارب من الحوثي، بينما هو في جوهره نهب ناعم، يُمارس باسم الدولة، ويُقتطع من أفواه الجائعين.
الإعاشة ليست حقًا مكتسبًا... بل امتيازًا طبقيًا مقنّعًا. فالحقوق تُكتسب بالعمل، بالخدمة، بالعقد الاجتماعي، وبالقانون المشرّع. أما الإعاشة فهي بدعة سياسية تشبه "خُمس السادة الهاشميين" في نظام سلطة الولاية الإمامية. الموظف العادي يعمل ليأخذ، أما "الهارب" فيأخذ ليصمت. إنه ريع سياسي يكافئ العجز، ويحوّل الغياب إلى عملة أكثر رواجًا من الفعل.
الشرعية والحوثي وجهان لنظام امتياز واحد. المفارقة الأكثر مرارة أن كليهما، رغم عدائهما الظاهري، يعيدان إنتاج البنية الإمامية نفسها: قلة مميزة تعيش على حساب كثرة مسحوقة. الحوثي يوزّع "الخُمس" للسادة الإماميين كنص ديني فوق الدولة، والشرعية توزّع "الإعاشة" للسادة الجمهوريين كنص سياسي فوق الشعب. كلاهما ينهب، وكلاهما يبرّر، وكلاهما يستنزف.
أما النازحون الحقيقيون في الداخل، أولئك الذين ذاقوا القصف والتهجير والسجون، فلا تشملهم هذه "الإعاشات". لا هم "هاربون" إلى الخارج بما يكفي ليستحقوا إعاشة، ولا "سادة" بما يكفي ليستحقوا خُمسًا. إنهم فائض بشري، لا يدخل في معادلة الامتياز، بل يُترك على هامشها.
نحن في مرحلة موحلة... حيث يُكافأ الهرب إلى الخارج لمدة 12 شهرًا، ويُعاقَب الصامد في الداخل بلا رحمة. الإعاشة، بهذا المعنى، ليست مجرد بند مالي، بل رمز لمرحلة كاملة: مرحلة تُحوّل الهزيمة إلى وظيفة، والهروب إلى مهنة، والصمت إلى فضيلة. لا تُسجَّل في التاريخ كأسماء أفراد، بل كوصمة عار جماعية تلطّخ الذاكرة الوطنية.
إنه فساد لا يقل خطورة عن فساد الحوثي، لكنه أكثر عبثية، لأنه يُمارس باسم الجمهورية، باسم الدولة، باسم القانون. وهنا نفهم أن الفساد ليس انحرافًا طارئًا، بل طريقة وجود تُعيد إنتاج نفسها في كل الأطراف، وبأسماء مختلفة، لكن بنفس الجوهر: احتقار الإنسان وتقديس الامتياز.