تعزـ الجغرافيا التي تلد الدولة وفد المبعوث الاممي زيارة تتجاوز الحدث
في الجغرافيا السياسية، ليست قيمة الزيارات في تصريحاتها، بل في قدرتها على لمس العصب الحقيقي للصراع·. حين وصلت الزهراء لنقي، كبيرة مستشاري مكتب المبعوث الأممي، إلى تعز، لم تكن تحمل تفويضًا للتفاوض بقدر ما كانت تحمل خريطة اختبار لنظامٍ هشّ ما زال يبحث عن نقطة اتزان بين المأساة والاحتمال·
تعز ليست مجرد مدينة محاصرة منذ تسع سنوات، بل عقدة في معادلة اليمن كله؛ مدينة تمثّل نموذجًا مصغّرًا للدولة المفقودة — حيث تختلط السياسة بالإغاثة، والإرادة بالخذلان، والأنوثة بالقهر السياسي· ولهذا، فإن وصول البعثة الأممية إلى تعز كان لحظة اختبار للنية الأممية في فهم اليمن، لا في زيارته فحسب·
تعز ليست فقط جغرافيا مرتفعة على جبال شاهقة تطل على البحر، بل هي عقلٌ سياسي يختبر قدرة اليمنيين على البقاء داخل معنى الدولة·
لقد كانت دومًا مدينة الوسط — لا تملك النفط، ولا الميناء، ولا الجغرافيا العسكرية الحصينة، لكنها تملك ما لا تملكه المدن الأخرى: الذاكرة السياسية والطبقة الوسطى والتعليم والحلم الجمهوري·
ولهذا كانت أكثر المدن تعرضًا للعقاب·. فالحوثي حاصرها لأنها تمثل نقيضًا لمشروعه السلالي، والانتقالي تجاهلها لأنها لا تؤمن بهوية مناطقية، والنخب الحزبية استخدمتها ثم تركتها تواجه قدرها· لكن رغم ذلك، بقيت المدينة قائمة· تتنفس من خلال نسائها، وطلابها، وناشطيها· ولهذا كانت زيارة المبعوث الأممي اختبارًا ليس فقط لمدى معاناتها، بل لمدى صلابتها؛ لأن الأمم المتحدة حين تزور تعز، فهي تزور أكثر المدن اليمنية تمثيلاً لفكرة المجتمع السياسي الحديث·
في منطق فريدمان، الجغرافيا لا تُفسَّر، بل تُفرض· وتعز تفرض منطقها على كل من يحاول تجاهلها، فهي تقع على حافة الصدع الذي يفصل اليمنين: شمال ما يزال تحت سلطة السلالة، وجنوب ما يزال تحت هيمنة النزعة الانفصالية·
في هذا الموقع الحرج، تصبح تعز نقطة التوازن الوحيدة الممكنة بين فكرتين متناقضتين — وحدة الدولة وتعدد الانتماءات·
ومن هنا، فإن من يسيطر على تعز لا يسيطر على الأرض، بل على اتجاه التاريخ اليمني·
هي المدينة التي لا يمكن تجاوزها في أي مشروع لإعادة بناء الدولة، لأن مشروعها ليس سلطويًا، بل معرفيًّا — يقوم على الفكرة، لا على القبيلة، وعلى الإنسان، لا على السلالة·
زيارة الأمم المتحدة كمؤشر رمزي ـ حين جلست الزهراء لنقي مع المحافظ شمسان ومع أمهات المختطفين والناشطات والمنظمات، كانت تعيد تعريف السلام في سياقٍ مختلف: سلام يتأسس من الداخل لا من فوق·
فالأمم المتحدة، بوعي ، تدرك أن تعز هي المكان الوحيد الذي يمكن أن يبدأ منه حوار يمني داخلي غير خاضع لقوة السلاح أو الهويات المناطقية·
إنها المكان الذي لم يُختزل في سلطة أو مليشيا، بل ظلّ محتفظًا بمركزه المدني رغم الحرب·
من تعز يبدأ المعنى.. حين تنهار الجغرافيا، تبقى المدن التي تملك ذاكرة· وتعز، التي حملت عبء الجمهورية منذ ثورة 1962، ما تزال تحتفظ بالمعنى حين فقده الجميع· هي التي دفعت أثمانًا باهظة لتبقى داخل مفهوم الدولة، وهي التي يمكنها اليوم أن تعيد تعريفها من جديد، لا لأنها الأقوى، بل لأنها الأعمق·
ولهذا، فإن زيارة وفد المبعوث الأممي إلى تعز لا تُقاس بنتائجها السياسية، بل بدلالتها الرمزية: أن الأمم المتحدة، بعد كل هذا الخراب، بدأت تدرك أن البحث عن السلام في اليمن لا يكون في الرياض أو صنعاء أو عدن، بل في المدينة التي لم تفقد إيمانها بالدولة — تعز·
نحو المستقبل – من تعز تُرسم ملامح اليمن القادم.. فكل نزاع، كما يرى علم الجيوبولتيك، ينتهي في المكان الذي يبدأ فيه التاريخ من جديد·. واليمن، وقد استُنزفت أطرافه في حربٍ بلا معنى، سيجد نفسه مضطرًا للعودة إلى المركز — إلى المدينة التي لم تنكسر رغم كل شيء·
فمن تعز، وليس من صنعاء ولا عدن، يمكن أن تُعاد صياغة المعادلة الوطنية· لأن كل مدينة في اليمن تمثل ذاكرة لمرحلة، إلا تعز فهي تمثل مستقبلاً مؤجلاً ينتظر لحظة تَحقُّقه·
في السنوات القادمة، لن يكون السؤال: من يملك القوة؟
بل من يملك الشرعية الأخلاقية والسياسية لتمثيل الدولة·
وتعز، بتركيبتها المدنية ووعيها الجمهوري، هي المرشّح الطبيعي لقيادة هذا التحوّل، لا بوصفها سلطة، بل بوصفها فكرة·
وحين تبدأ الأمم المتحدة بإعادة رسم خارطتها للسلام، ستكتشف أن المفاوضات الجادة لا يمكن أن تبدأ إلا من المدينة التي ما تزال تملك لغة الدولة، لا لغة السلاح·
هكذا، قد تُصبح تعز — لا كجغرافيا فحسب، بل كوعيٍ سياسي — البوابة التي يعبر منها اليمن إلى توازنه الجديد·
فالمستقبل، كما يقول فريدمان، لا يُمنح للأقوياء، بل للأماكن التي تحتفظ بذاكرة المعنى حين ينساه الجميع·وتعز اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هي تلك الذاكرة·