حضرموت والعرض العسكري: عندما تُعيد الجغرافيا كتابة السياسة
تابعتُ مؤخرًا العرض العسكري الذي نظمه "مجلس قبائل حضرموت، ورأيت فيه أكثر من مجرد عرص عسكري محلي،في الجغرافيا السياسية، لا تُقاس الأحداث بحجمها المباشر، بل بما تكشفه من تحولات في موازين القوة، وما جرى في حضرموت هو بالضبط هذا النوع من الأحداث الصغيرة التي تُعلن عن نهاية مرحلة وبداية أخرى في بنية اليمن والجزيرة العربية·
منذ سقوط الدولة اليمنية ككيانٍ مركزي قبل عقد، انقسمت البلاد إلى مناطق نفوذ تتقاطع فيها المصالح السعودية والإماراتية والإيرانية، لكن حضرموت كانت، حتى الآن، الإقليم الهادئ — منطقة ذات موارد ضخمة، ومجتمع متماسك، وبنية قبلية متصالحة معنفسها ومع الدولة أكثر من غيرها···· الآن، ومع العرض العسكري الأخير، يمكن القول إن حضرموت دخلت رسميًا عصر الفاعلين المحليين المسلحين·
لم يعد الانتظار خيارًا·
حين تنظم قبائل حضرموت عرضًا عسكريًا بهذا الحجم، فهي لا ترسل رسالة إلى الداخل فحسب، بل إلى الخارج أيضًا·
إنها تقول: “نحن هنا، نملك القدرة على التنظيم، وعلى فرض توازنٍ خاص بنا داخل المعادلة اليمنية·· ومن تجربة دراستي في تحليل الدول المتفككة، أعلم أن مثل هذه العروض لا تُقام عبثًا·
فكل قوة محلية لا تُظهر سلاحها إلا عندما تشعر أن المركز لم يعد ضامنًا لبقائها·
هذا ما حدث في العراق بعد 2003، وفي ليبيا بعد 2011، وها هو يتكرر اليوم في اليمن:
كل فراغٍ في السلطة يولّد سلطة بديلة، تتخذ شكلًا قبليًا أو مناطقيًا أو أيديولوجيًا·
بالنسبة للسعودية، من وجهة نظري، يمكن النظر إلى صعود المجلس القبلي في حضرموت كفرصة لإعادة بناء محور موالٍ لها في الشرق اليمني، يوازن نفوذ المجلس الانتقالي المدعوم من الإمارات في الجنوب·
لكن في الوقت ذاته، يخشى السعوديون أن تتعقد خريطة الولاءات أكثر مما هي عليه، وأن يتحول كل إقليم إلى جيشٍ صغير مستقل بذاته·
أما الإمارات، التي بنت نفوذها العسكري في عدن والمكلا عبر قوات النخبة، فترى في القوة الحضرمية الجديدة تهديدًا لنموذجها المفضل: القوة التابعة، لا المستقلة، بينما حضرموت لا تُظهر تبعية ، بل نزعة إلى الاستقلال الذكي؛ أي استقلال من دون انفصال·
في تحليلي، هذا العرض العسكري ليس حدثًا عابرًا، بل نقطة تحوّل في هندسة القوة اليمنية··· فمن الآن فصاعدًا، لن يكون التوازن في الجنوب قائمًا بين عدن وصنعاء فحسب، بل بين عدن وحضرموت أيضًا·
وحين تبدأ الأطراف في بناء جيوشها الخاصة، فهذا يعني أن مفهوم “الدولة اليمنية” لم يعد يُعرّف جغرافيًا، بل قَبَليًا وعسكريًا·
السيناريوهات الثلاثة لمستقبل حضرموت ــــ في تحليلاتي عن الدول المتشظية، أستخدم دائمًا مبدأً بسيطًا «عندما تفقد الجغرافيا مركزها، تُصبح كل الأطراف مراكز بديلة····حضرموت اليوم هي أحد هذه "المراكز البديلة"، وما سيحدث خلال السنوات القادمة سيتحدد وفق ثلاثة مسارات محتملة — ليست متناقضة بالضرورة، لكنها تتنافس على الزمن والفرصة·
السيناريو الأول: الاندماج المنظّم، في هذا السيناريو، تنجح القيادة السياسية اليمنية، بدعمٍ سعودي، في استيعاب القوة الحضرمية داخل هيكل الدولة الشرعية، يُعاد تعريف المجلس القبلي كقوة دفاع إقليمية شرعية، تُمنح موقعًا إداريًا وعسكريًا رسميًا·
بهذا الشكل، يتحول العرض العسكري من إشارة استقلال إلى نواة إعادة بناء الدولة من الأطراف··· لكن نجاح هذا الخيار يتوقف على أمرين:
1· أن تبتعد الرياض عن لعبة التوازن بين الإماراتيين والحضارم،
2· وأن تتعامل الحكومة اليمنية مع حضرموت كشريك في السيادة، لا كتابعٍ جغرافي ةلجنوب،
السيناريو الثاني: الاستقلال الناعم··· هذا هو السيناريو الذي تميل إليه الديناميات الواقعية على الأرض·· فيه تحتفظ حضرموت بقوتها المستقلة، وتنشئ بنية أمنية وإدارية محلية متماسكة، دون إعلان انفصال رسمي··· سيكون هذا الوضع شبيهًا بنموذج إقليم كردستان في العراق:
سلطة أمر واقع داخل دولة اسمية، القوة القبلية، والثروة النفطية، والعلاقات الهادئة مع السعودية، ستمنح حضرموت قدرة على صياغة معادلة حكم ذاتي بحكم الأمر الواقع·
من وجهة نظري، هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحًا في المدى المتوسط، لأنه ينسجم مع ميول القوىالحضرميه والإقليمية معًا·
السيناريو الثالث: الاحتواء الإقليمي··· في حال تصاعد التوتر بين السعودية والإمارات، قد تتحول حضرموت إلى ساحة تنافس مباشر بينهما·
ستسعى الرياض إلى دعم المجلس القبلي كقوة موازنة، بينما قد تعمل أبوظبي على تفكيك تماسكه عبر أدواتها في الساحل والجنوب،
هذا الصراع سيؤدي إلى تسييل القوة الحضرميه (مجلس قبائل حضرموت) أي تحويلها من كيان موحّد إلى مجموعات متنافسة، تفقد تدريجيًا رسالتها الأولى··· وحينها ستعود حضرموت إلى معادلة “الفراغ” ذاتها التي خرجت منها،
أخيراً في عالم الجغرافيا السياسية، القوة لا تُمنح، بل تُبنى·
حضرموت اليوم ليست مجرد إقليم يمني، بل مختبر لفكرة جديدة في الدولة اليمنيه المفككة··· أن تبني المجتمعات سلطتها حين تتهاوى الدولة، وأن تحمي الجغرافيا نفسها حين يتخلى المركز عنها·
قد تبدو هذه الفكرة غريبة على من اعتادوا النظر إلى اليمن من زاوية الحرب، لكن بالنسبة لي، كمن درس تفكك الاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا والعراق، أعرف أن ما يجري في حضرموت ليس نهاية الدولة الوطنيه ، بل بداية إعادة اكتشاف معناها،،