حين يحكم الماضي المستقبل

Author Icon مصطفى محمود

أكتوبر 18, 2025

في الشرق الأوسط.....كلّ حربٍ تبدأ باسم العدالة. وتنتهي باسم الانتقام)لقد درست التاريخ الحديث بعمق، فلم أجد، مثالًا أكثر فوضوية على هذه القاعدة من اليمن، دولةٌ جمهوريه، لم تُكمل بناء نفسها، ابتلعتها جماعةٌ سلاليه، جاءت من جوف التاريخ، لتعلن أنها المالك الشرعي للحاضر،

إنّ الحوثيين ليسوا حركةً سياسية كما يتصور الغرب، بل ارتداد أنثروبولوجي إلى بنية ما قبل الدولةـ إلى زمن السقيفه قبل 1400عام، وحتى في ذلك الزمن رفضوا الناس ان يكون الحكم فيه امتيازًا للنسب، اراد الحوثي ان يحققه في القرن الواحد واىعشرين

الحوثيون يسعون لا إلى السيطرة على السلطة، بل إلى إعادة تعريف معنى السلطة نفسها، من وظيفةٍ وطنية إلى ميراثٍ مقدّس للهاشميين،

في منطقهم، لا يوجد "شعب يمني" بقدر ما توجد سلاله مصطفاة تمتلك تفويضًا إلهيًا لإدارة مصائر اليمنيين،
ولهذا، فإنّ صراع اليمنيين معهم لا يمكن أن يُفهم بلغة السياسة الحديثة، لأنهم لا يعيشون داخلها أصلًا، إنهم يفاوضون العالم من القرن الثالث عشر بعقلٍ يستخدم أدوات القرن الحادي والعشرين.

وبرغم ان الدعم الايراني للجماعه واضحا للعن، الا ان من وجهة نظري الخطأ الأكبر الذي ارتكبه المحللون الغربيون أنهم تعاملوا مع الحوثيين كامتدادٍ للثورة الإيرانية، بينما هم في الحقيقة أقدم من إيران، وأعمق من أي تحالفٍ آني،

إنهم بقايا نظامٍ إماميٍّ لم يمت تمامًا بعد 1962، بل انسحب إلى الظل، ينتظر لحظة الضعف الوطني ليعود متشحًا بثياب المظلومية الهاشميه ،
فحين انهارت الدولة اليمنية في العقد الماضي، خرجت هذه الذاكرة من تحت الركام، ورفعت شعار "الولاية" كبديلٍ عن الشرعية الدستورية.

في نظرهم، الثورة الجمهورية ليست إلا جريمة سياسية ضد السلالة، ولذلك، فكلّ انتصارٍ عسكري لهم هو في جوهره انتقام رمزي من فكرة المساواة، وكلّ هزيمةٍ يتلقونها تتحوّل إلى طقسٍ روحي يزيد من تماسكهم

يدرك الحوثيون أن السيطرة لا تُبنى على القوة وحدها، بل على إنتاج الخوف لقد ورثوا عن الأنظمة الكهنوتية القديمة سرّ الحكم الطويل.. أن تجعل الناس يخافونك أكثر مما يكرهونك،
فالمواطن الذي يكرهك قد يثور، أما الذي يخافك فسيُطيعك إلى الأبد،
اعتقد من هنا نشأت بنية السلطة الحوثية القائمة على الركائز الثلاث الاتية،

1. القداسة« لتبرير الحكم»
2. الخوف «لتثبيته»
3. الفقر «لضمان استمراره»

بهذا المزيج يحكم الحوثيون مجتمعًا ممزقًا ويقنعونه بأن الخضوع عبادة ، وأن الجوع امتحانٌ من الله، وأن الحرب دفاعٌ عن كرامة اليمنيين وعن الحقيقة المطلقة.

إنهم يُحوّلون المأساة إلى أيديولوجيا والهزيمة إلى دعايةٍ سياسية، وحين يُقصفون، لا يخسرون. بل يربحون تعاطفًا، زمبررا للقمع والوحشيه وتزيدهم الجراح الوطني
هيبةً في نظر جمهورٍ مشوَّش يرى في الألم شهادةَ صدق،

تعاملت واشنطن مع الملف اليمني كما تعاملت مع كل نزاعات الشرق الأوسط:
بوصفها مشكلة أمنية يمكن إدارتها بالدرونز والمساعدات،
لكنّ الحوثيين ليسوا جماعة إرهابية تقليدية، بل عقيدة سياسية ذات بنية لاهوتية.
ومع العقائد لا تكفي القنابل، بل تحتاج إلى فهمٍ تاريخي ونفسي لطبيعة السلطة التي تُفرزها،

لقد كان يمكن للولايات المتحدة أن تُحوّل اليمن إلى مختبرٍ لبناء الدولة الحديثة، لكنها تركته يتحوّل إلى مسرحٍ لتجريب سياسات الردع المحدود،
وفي هذا الفراغ، تمدد الحوثيون ببطءٍ وذكاء، حتى أصبحوا يملكون ما هو أخطر من السلاح (الزمن)
إنهم يعرفون أن القوى الكبرى تغير أولوياتها، أما الجماعات العقائدية فلا تعرف الملل،

الحوثيون اليوم ليسوا خطرًا على اليمن وحده، بل على مفهوم الدولة في المنطقة كلها،
فحين تنجح جماعةٌ سلالية في بناء سلطة داخل نظام جمهوري، يصبح التاريخ نفسه في مأزق.
إنّ مشروعهم لا يمكن أن يُهزَم بالقوة فقط، لأنهم لا يقاتلون من أجل الأرض، بل من أجل حقٍّ ميتافيزيقي في احتكار المعنى،

لكن المفارقة القاتلة هي أنهم يبنون سلطتهم على أسطورةٍ لا يمكنها التعايش مع الواقع،
فكلّ دولة دينية تنتهي إلى الفساد، لأن الإنسان لا يمكن أن يعيش إلى الأبد في ظلّ فكرةٍ مقدسة،
ومع الوقت، ستبدأ تتضخم التناقضات الداخلية — بين العقيدة والمصلحة، بين الزعيم والكهنة، بين المقدّس والدولة — في تمزيق نسيجهم من الداخل
حينها فقط، سيكتشف الهاشميون أن الماضي لا يُحكم، بل يُستعاد للحظة ثم يُدفن.. وأنّ من يحاول أن يجعل من النسب مشروعًا سياسيًا، إنما يوقّع على وثيقة موته المؤجل،

في الختام ياكرام
اليمن ليس ساحة حربٍ فقط، بل مختبرٌ لتجربةٍ مأساوية بين زمنين (زمن الدولة الذي لم يكتمل) وزمن السلاله الذي يرفض أن يموت)
والحوثيون هم التعبير الأشدّ كثافةً عن تلك المفارقة —
أن تحكم حاضر اليمنيين، باسم موتى قريش ، وأن تبني نظامك على ركام الأمة التي تدّعي أنك تنقذها.

زر الذهاب إلى الأعلى