الأسرة بوصفها نقطة انطلاق نحو عدالة مجتمعية شاملة
في كل مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني، كانت الأسرة اللبنة الأساسية التي يُبنى عليها صرح الحضارة. ولكن في ظل عالم تتزاحم فيه الأزمات، من الحروب والصراعات إلى الفقر والتهميش، تبرز حاجة مُلحّة لإعادة قراءة دور الأسرة، ليس فقط كفضاء خاص للرعاية والعاطفة، بل كقوة اجتماعية يمكن أن تُحدث فارقًا حقيقيًا في مسار الأمم.
غالبًا ما نتحدث عن الأسرة بصفتها واحة أمان وملجأ حب، وهو توصيف دقيق من جانب، لكنه لا يحيط بكامل الصورة. فوظيفة الأسرة، حين تتجذر في قيم العدالة والانتماء الإنساني، تتجاوز حدود الجدران الأربعة لتؤثر مباشرة في نسيج المجتمع وتوجهه.
وهي بذلك تصبح ليست مجرد خلية اجتماعية، بل مركزًا للتشكيل الأخلاقي والفكري الذي ينعكس أثره في كل مناحي الحياة العامة.
الأسرة التي تُربي أبناءها على مبادئ الاحترام المتبادل، والتعاون، والصدق، تضعهم على طريق المساهمة الفعالة في تنمية المجتمع،لكنها حين تنغلق على ذاتها، وتُنشئ أبناءها على مبدأ الامتياز الخاص، والمصلحة الضيقة، وتغرس فيهم شعور التفوق على الآخرين، فإنها تخلق فجوة بين الفرد والمجتمع، وتُعيد إنتاج الانقسام الاجتماعي بأشكال جديدة.
لنأخذ مثالًا بسيطًا: إذا نشأ الطفل على أن "الأقربون أولى بالمعروف" بمعناها المنغلق، فقد يرى أن مسؤولياته تنحصر في أسرته فقط، وأن من الطبيعي أن يحصل على فرصته أولاً حتى وإن كان هناك من هو أكثر استحقاقًا منه. ومع الوقت، يتحول هذا المفهوم إلى مبرر اجتماعي لسلوكيات غير عادلة، تبدأ من احتكار الموارد ولا تنتهي عند تبرير الفساد والمحسوبية.
في المقابل، حين يُربّى الطفل على أن العدالة لا تتجزأ، وأن الكرامة الإنسانية واحدة، وأن المسؤولية لا تتوقف عند باب بيته، فإنه يندمج في محيطه كمواطن فاعل، يحمل في قلبه انتماءً يتجاوز أسرته الصغيرة إلى المجتمع، والوطن، والعالم.
هذا التوجه التربوي لا يعني إهمال حب الأسرة أو التقليل من شأن العاطفة الأبوية.
بل على العكس، هي دعوة إلى تعميق هذا الحب من خلال ربطه بالقيم العليا التي تحفظ توازن المجتمع. فالحب الحقيقي للابن لا يكون في تفضيله على الآخرين دون وجه حق، بل في تعليمه كيف يكون عادلًا، وكيف يحقق ذاته دون أن يسلب الآخرين فرصهم.
ومن التحديات الكبرى التي تواجهها الأسر اليوم، خاصة في المجتمعات التي تعاني من أزمات اقتصادية أو سياسية، هو الخوف. الخوف من المستقبل، من الفقر، من التهميش، من ضياع الفرص.
هذا الخوف قد يدفع العائلات إلى اتخاذ خيارات تبدو منطقية على المدى القصير، لكنها تُرسخ مزيدًا من الانفصال عن قضايا المجتمع.
وهنا يكمن الخطر: أن يتحول الخوف إلى مبرر للانغلاق، والانغلاق إلى سبب في تراجع القيم الجامعة.
لكن ماذا لو تحوّلت الأسرة من كيان يستهلك الأمان إلى مصدر يصنعه؟ ماذا لو أصبحت العائلة اليمنية، في هذه الظروف الصعبة، نواة لحركة اجتماعية أفقية تقوم على بناء الأمل وتعزيز المسؤولية الجماعية؟
الأسرة ليست بعيدة عن السياسة أو الاقتصاد، حتى وإن بدت كذلك في الظاهر. فهي تصنع وعي الأفراد الذين يشكّلون لاحقًا اتجاهات الرأي
إن هذا التحول لا يتطلب إمكانيات خارقة، بل يبدأ من قرارات صغيرة داخل البيت، من نوعية القيم التي نغرسها في الجيل الجديد، ومن طبيعة الحوار الذي يدور بين الآباء والأبناء.
نحن بحاجة إلى أسر تُربّي أبناءها على أن القضايا الكبرى، مثل الفقر، والعدالة، والتعليم، والمساواة، ليست بعيدة عنهم، بل تبدأ من مائدة الطعام، ومن القصص التي تُروى قبل النوم، ومن طريقة الحديث عن "الآخر"، سواء كان جارًا أو زميلًا أو حتى مختلفًا في الرأي أو الخلفية أو المذهب أو الدين.
الأسرة ليست بعيدة عن السياسة أو الاقتصاد، حتى وإن بدت كذلك في الظاهر. فهي تصنع وعي الأفراد الذين يشكّلون لاحقًا اتجاهات الرأي، وقناعات التصويت، وأنماط الاستهلاك، وطريقة التفاعل مع القانون والمؤسسات. ولذلك، فإن بناء أسرة ذات وعي اجتماعي وإنساني، هو استثمار بعيد المدى في استقرار المجتمعات.
وفي اليمن، حيث يواجه الناس تحديات مركبة من النزاع، والتهجير، والانقسام، والفقر، يكون الحديث عن دور الأسرة أكثر حساسية وإلحاحًا. فالأسرة اليمنية ليست فقط متلقية لتأثيرات الواقع، بل هي فاعل فيه أيضًا.
وقد آن الأوان لأن تُعطى هذه الأسرة المساحة الكافية لتُسهم في صناعة الحلول، عبر التربية الواعية، وتمكين المرأة، وتعزيز ثقافة الحوار داخل البيت.
لقد أثبتت التجربة أن العديد من المبادرات المجتمعية الناجحة، في اليمن وخارجه، انطلقت من أسر قررت أن تكون جزءًا من التغيير. بدأ بعضها بمشاريع تعليمية منزلية صغيرة، أو مبادرات بيئية، أو حملات توعية في الأحياء، أو حتى مجرد جلسات نقاش تزرع روح النقد البنّاء لدى الأبناء. وهذه كلها نماذج تؤكد أن التغيير يبدأ من الداخل، من خيارات صغيرة تُتخذ داخل البيت، لكنها تُحدث فرقًا كبيرًا في خارجه.
إن مستقبل اليمن، بل مستقبل أي مجتمع، لن يُبنى فقط بقرارات سياسية أو خطط اقتصادية، بل بسلوكيات تتكرّر في آلاف البيوت كل يوم
ومن المهم هنا الحديث عن تمكين الأسرة ككل، وليس فقط الأفراد داخلها. فالأسرة الواعية بحاجة إلى موارد معرفية، ومساحات للنقاش، ونماذج ملهمة يمكن الاقتداء بها. الإعلام، والمناهج التعليمية، ومنظمات المجتمع المدني، كلها أدوات يمكن أن تساند الأسرة في مهمتها التربوية.
يجب أن يُعاد تصميم هذه المنظومات لتخاطب الأسر لا باعتبارها مجرد متلقٍ للرسائل، بل باعتبارها شريكًا أساسيًا في صناعة التغيير.
كما أن تعزيز الحوار بين الأجيال داخل الأسرة يمثل خطوة مهمة في هذا السياق. فعندما يشعر الأبناء أن آراءهم مسموعة، وأنهم جزء من عملية اتخاذ القرار، فإن ذلك يعزز لديهم الثقة بالنفس، ويُنمّي فيهم روح المسؤولية والمبادرة.
وهذا بدوره يُعد أرضية خصبة لتنشئة أفراد فاعلين ومؤثرين في مجتمعاتهم.
ومن جهة أخرى، لا بد أن نُدرك أن مفهوم الأسرة ذاته قد تغيّر وتنوّع، ولم يعد محصورًا فقط في الشكل التقليدي. فهناك أسر أحادية، وأخرى ممتدة، وأخرى شُكّلت بفعل ظروف الهجرة أو النزوح أو الانفصال. جميع هذه الأشكال تستحق الدعم والرؤية العادلة. لأن القيم لا ترتبط بشكل العائلة، بل بروحها، وما تُنتجه من وعي وسلوك.
إذا أردنا أن نؤسس لمجتمع أكثر عدلًا وتماسكًا، فعلينا أن نبدأ من حيث يبدأ كل شيء
إن مستقبل اليمن، بل مستقبل أي مجتمع، لن يُبنى فقط بقرارات سياسية أو خطط اقتصادية، بل بسلوكيات تتكرّر في آلاف البيوت كل يوم. في طريقة احترام الزوجين لبعضهما، في تشجيع الأطفال على طرح الأسئلة، في رواية قصة تحتفي بالاختلاف بدلاً من الخوف منه، في صلاة يُدعى فيها بالخير للجميع، لا لفئة دون أخرى.
إذا أردنا أن نؤسس لمجتمع أكثر عدلًا وتماسكًا، فعلينا أن نبدأ من حيث يبدأ كل شيء: من الأسرة. فهي ليست مجرد إطار اجتماعي أو ثقافي، بل هي المختبر الأول للقيم، والمنصة الأولى لتجربة مفاهيم مثل الإنصاف، الخدمة، والتعاطف. وعندما تنهض الأسرة بدورها في بناء الإنسان القادر على الحب والفهم والعمل المشترك، فإننا نكون قد بدأنا فعلًا في بناء حضارة لا يُقصى فيها أحد، ولا يُفضّل فيها إنسان على آخر إلا بما يقدمه من خير للناس جميعًا.