عند مفترق الأعوام: كيف نعيد رسم طريقنا؟

Author Icon الدكتور / نادر السقاف

ديسمبر 29, 2025

ها نحن نودّع عام 2025، نغلق آخر صفحاته، وننظر إلى الوراء كمن يُقلّب ألبومًا من الصور لا تخلو أي منها من مشاعر متضاربة: حزنٌ وفرح، انتكاسةٌ ونهوض، خيبةٌ وأمل. لم يكن هذا العام مجرد امتداد زمني لما قبله، بل كان امتحانًا جديدًا للثقة، للقدرة على التحمّل، ولإمكانية التحوّل من مجتمع يرزح تحت الضغوط، إلى مجتمع يتعلّم من أزماته.
في بلدٍ مثل اليمن، لا تمرّ السنوات خفيفة. إنها تمرّ مثقلة بالأسئلة، بالمآسي، بالتحوّلات الكبرى والصغيرة. ولأننا لسنا في موقع المتفرّج على ما يحدث، بل في صميم التجربة، فإننا بحاجة إلى وقفة حقيقية، لا مجرد لحظة عاطفية في نهاية العام. بحاجة إلى تأمّل عميق: ما الذي عشناه؟ وماذا تعلّمنا؟ وما الذي يجب أن نحمله معنا إلى العام الجديد، وما الذي يجب أن نتركه وراءنا؟

ليست الأعوام التي تغيّر المجتمعات، بل الناس

الأحداث، مهما عظُمت، لا تصنع المجتمعات. البشر هم من يعطون الحدث معناه وتأثيره. كم من بلدٍ اجتاز أزمات طاحنة ثم نهض أقوى، لا لأنه خرج من الأزمة بأقل الخسائر، بل لأن شعبه خرج منها بأكبر قدر من الوعي. والوعي هو نقطة التحوّل الأولى.
لقد كشفت لنا سنوات الأزمة في اليمن – وهذا العام تحديدًا – أن الخطر الأكبر لا يأتي فقط من الخارج، بل من الداخل: من تفكّك النسيج الاجتماعي، من ضعف الثقة، من خطاب الكراهية، من التراخي في المبادئ. لكنها كشفت أيضًا عن مكامن قوة غير متوقعة: قدرة اليمني على التحمّل، على العطاء في أقسى الظروف، وعلى الحلم، حتى وسط الركام.
ومع ذلك، لم نعد نملك رفاهية الانتظار. لا انتظار الدولة المثالية، ولا القائد المخلّص، ولا المبادرة الخارجية التي ستضع النقاط على الحروف. إن التغيير الحقيقي يبدأ من الجذور، من الأساس التي يقف عليها كل مواطن. من قرارات صغيرة لكنها تملك أثرًا تراكميًا هائلًا. من لحظة صدق مع الذات.

معالجات تبدأ من الداخل

حين نتحدث عن إعادة رسم الطريق، فإننا لا نقصد مجرد «خارطة طريق» سياسية أو اقتصادية. بل نقصد خارطة قيم، رؤى، تصوّرات جديدة للذات وللآخر. وهذا النوع من التغيير لا يُملى من أعلى، ولا يُنجز بقرارات فوقية، بل يُصاغ تدريجيًا من خلال ثقافة جديدة تُبنى في البيوت، في المدارس، في الأسواق، في الحوارات اليومية.
نحتاج إلى تغيير فكري، يبدأ من إعادة تعريف بعض المفاهيم التي استُهلكت حتى فقدت معناها:
• ما الحرية؟
• ما العدالة؟
• ما الكرامة؟
• ما المواطنة؟
هل هي مجرد شعارات نرفعها في المناسبات؟ أم قيم نعيشها وندافع عنها في تفاصيل الحياة اليومية؟
هل نؤمن فعلًا أن كل طفل في هذا البلد يستحق التعليم بغضّ النظر عن منطقته أو لهجته؟
هل نغضب لغياب العدالة حتى حين لا نكون نحن الضحايا؟
هل نرفض الفساد حتى عندما يكون في مصلحتنا؟
هذه الأسئلة ليست فلسفية، بل عملية للغاية. فالمجتمع لا يُقاس فقط بعدد المدارس أو المستشفيات، بل بدرجة صدقه مع نفسه، وبقدرته على ممارسة مبادئه لا ترديدها.

مَن هو الآخر في وجداننا؟

أحد أهم تحديات السنوات الأخيرة هو علاقتنا بـ"الآخر". ذلك الآخر الذي يختلف معنا في الرأي، أو الخلفية، أو الجغرافيا، أو المذهب، أو الدين، أو الانتماء السياسي. لقد أنتجت الاستقطابات المتكررة عقلية إقصائية تجعل كل اختلاف تهديدًا، وكل سؤال تشكيكًا، وكل تنوع سببًا للريبة.
لكننا بحاجة ماسة إلى ثقافة التعدد لا فقط قبولها. فالتنوع – إذا أُدير بوعي – مصدر إثراء، لا مصدر خطر. لا يمكن لوطن أن يبنى على نسخة واحدة من التفكير، أو على صوت واحد، أو لون واحد. المجتمعات القوية هي التي تتسع للجميع، وتُدار بالحوار لا بالغلبة.
هل يمكن للعام القادم أن يكون بداية جديدة لعلاقتنا ببعضنا البعض؟ أن ننظر إلى من نختلف معه على أنه شريك في الهمّ، لا خصم في الهوية؟ أن نبدأ – ولو تدريجيًا – بنزع لغة الإقصاء من خطابنا اليومي؟

التعليم… النقطة التي تبدأ منها كل الطرق

لا حديث عن التغيير دون الحديث عن التعليم. لقد أصبح واضحًا للجميع أن إصلاح العقل الجمعي لا يتم إلا من خلال إعادة بناء المنظومة التربوية. نحن لا نحتاج فقط إلى مدارس، بل إلى فلسفة تعليمية جديدة: تعليم لا يُخرّج حافظين، بل يفكّر فيهم؛ لا يُكرّس التبعية، بل يصنع المبادرة؛ لا يُغذّي الانقسام، بل يُعلّم احترام التعدد.
التعليم ليس قطاعًا من قطاعات الدولة، بل هو محرّكها الأساسي. فالعقل الذي يتربى على التفكير الحر، وعلى القيم الإنسانية، هو الذي سيُعيد بناء المؤسسات، وسيضع السياسات، وسينشئ إعلامًا نزيهًا، واقتصادًا عادلًا.
لذا، فلنرفع التعليم إلى رأس الأولويات، لا بالشعارات، بل بالسياسات الفعلية. بالاستثمار في المعلمين، في المناهج، في بيئة التعلم، وفي إنتاج أجيال قادرة على مواجهة تعقيدات الواقع بأدوات معرفية لا بهواجس طائفية أو مناطقية.

من اليأس إلى المبادرة

قد يكون من السهل في ظل التحديات اليومية أن نشعر باليأس أو اللاجدوى. لكن الحقيقة أن كل لحظة نعيشها دون أن نُبادر بشيء، هي لحظة ضائعة من عمر التغيير.
ليست كل المبادرات بحاجة إلى تمويل خارجي، ولا إلى تصاريح، ولا إلى دعم دولي. بعضها يبدأ من قرار فردي: أن تتوقف عن إعادة نشر خطاب الكراهية، أن تُساعد جارك، أن تُقاطع الفساد، أن تقول كلمة الحق، أن تبدأ مشروعًا تطوعيًا في حيك، أن تُنقّي لغتك من التهكّم والسخرية.
كل هذه أفعال صغيرة على المستوى الفردي، لكنها تصنع فرقًا ضخمًا حين تتحوّل إلى ثقافة جمعية.

صحوة الضمير الجمعي

في نهاية هذا العام، نحن بحاجة إلى ما هو أكثر من الأمنيات، وأكثر من التمنيات. نحن بحاجة إلى صحوة ضمير. لا ضمير فردي فقط، بل ضمير جماعي يعيد ترتيب أولوياتنا على مستوى الوطن:
• أن نتوقّف عن رهن المستقبل للماضي.
• أن نمنح الشباب فرصة لا لأن يسيروا على خطى آبائهم، بل لأن يرسموا طريقًا جديدًا.
• أن نُصغي للنساء لا فقط كضحايا، بل كصانعات تغيير.
• أن نعيد تعريف النجاح، لا بالسلطة ولا بالمال، بل بالأثر الأخلاقي في المجتمع.
كل ذلك ليس خيالًا، بل طريق صعب، لكنه ممكن. طريقٌ شاقّ لا يعوّل على الحظ، بل على وعي متراكم، وخطى ثابتة، وتحمل جماعي للمسؤولية. لقد بدأت شعوب كثيرة من هذا المفترق، ونجحت، لا لأنها امتلكت المعجزات، بل لأنها تحرّكت بإصرار، وثقة، واستعداد دائم للتعلّم.

2026: عام البداية الفعلية؟

ما نرجوه من العام الجديد لا يمكن أن يتحقق ما لم يكن كلٌ منّا جزءًا من معادلة الحل، لا مجرّد مشاهد في مقاعد الانتظار. فالتاريخ لا يُكتَب على الورق، بل بالسلوك. والمستقبل لا يُصنع بالتكهن، بل بالفعل.
فلنحمل معنا من عام 2025 كل ما فيه من دروس، لا لنحزن عليها، بل لنستثمرها في تشكيل وعي أكثر نضجًا. فلنجعل من الفقد بوصلة، ومن التجربة حكمة، ومن الألم طاقة بنّاءة.
2026 ليس مجرد رقم جديد. إنه فرصة لإعادة تشكيل الذات الجماعية. فرصة لنبني من الداخل، بالكلمة، بالموقف، بالفعل، بالصبر، وبالأمل.
فهل نغتنمها؟

 

زر الذهاب إلى الأعلى