من الغناء إلى الغضب: كتاب يُنصت لنبض تهامة الشعري – حميد عقبي يعيد الاعتبار لفن مُهمّش
الثقافة والفن
في كتابه الجديد "من الغناء إلى الغضب: تأملات في الشعر الشعبي التهامي اليمني"، يقدّم الكاتب والمخرج السينمائي والمسرحي حميد عقبي عملًا نقديًا يمزج بين التوثيق، التأمل، والقراءة الجمالية لنوع أدبي ظلّ لسنوات طويلة على هامش الكتابات النقدية اليمنية والعربية. يعيد عقبي في هذا الكتاب الاعتبار إلى الشعر الشعبي التهامي، كخطاب أدبي مقاوم، مشبع بالعاطفة، والرمز، والإشارات السياسية، والوجدانيات المتعددة، ويغوص في أعماقه كفن متجدد ينبض بالحياة والتعبير الذاتي والجمعي.
الكتاب، الذي يتوزع على أكثر من اثني عشر فصلًا، يعتمد أسلوبًا مفتوحًا يجمع بين الكتابة النقدية الحرة، والانطباعات الجمالية، والمقاربة السيميائية والدرامية، مستفيدًا من تجربة عقبي ككاتب للرواية والمسرح والسيناريو، ومخرج سينمائي يمتلك حسًا بصريًا عاليًا.
ومن هنا تأتي قوة الكتاب، إذ لا يكتفي بنقل النصوص، بل يقرأها كـ"مشاهد درامية" و"نصوص حركية" يمكن تحويلها إلى عروض بصرية، مسرحية أو سينمائية، ما يجعل التجربة تفاعلية وشاعرية ومفتوحة التأويل.
الشعر الشعبي التهامي: هوية مهدّدة
يُشدّد حميد عقبي في مقدمته على أن هذا الكتاب ليس محاولة تجميع عابرة لنماذج من الشعر الشعبي، بل هو نداء ضد النسيان والتهميش، وسعيٌ لإحياء ذاكرة ثقافية باتت مهددة بالزوال. يشير بوضوح إلى غياب مراكز الأبحاث، وانعدام الدراسات الجادة في الجامعات اليمنية والعربية حول هذا التراث، رغم ما فيه من ثراء لغوي، تصويري، وتعبيري. كما يُبرز عقبي دور شبكات التواصل الاجتماعي وبعض المبادرات الفردية في حفظ هذا التراث الشفهي، لكنه يُذكّر بأن هذه الجهود تبقى محدودة ولا تحلّ محل العمل المؤسسي.
يعرض الكتاب نماذج شعرية لعدد من الشعراء الشعبيين التهاميين، منهم: أمحمد أمرامي، محمد محفلي، سي شعيب الأهدل، وسود معمى. يتوقف عند كل منهم، محللًا خصوصياته الأسلوبية والموضوعية، وطريقة تعامله مع اللغة والصورة الشعرية، والعلاقة بالمكان، والزمن، والجسد، والهوية. لا يتعامل عقبي مع هؤلاء الشعراء كأصوات عابرة، بل كرموز سردية ووجدانية تنتمي إلى وجدان تهامة العميق والمتعدد.
من الغزل إلى الاحتجاج
ينقسم الكتاب إلى محاور عدة، من بينها: البعد السردي في الشعر الشعبي التهامي، الرومانسية والمشهدية في شعر سي شعيب الأهدل، التداخل بين الغزل العذري والتعبير الجنسي في شعر محمد محفلي، والقصيدة التهامية السياسية كنموذج للاحتجاج الشعبي.
في قراءة نموذجية لقصيدة "يا أهل صنعاء" للشاعر محمد محفلي، يوضح عقبي كيف يمكن للقصيدة الشعبية أن تتحول إلى خطاب سياسي ناقد للسلطة والمركزية والاستغلال. بأسلوب بسيط وعبارات مباشرة، تختزل القصيدة عقودًا من التهميش والإقصاء الذي عانته تهامة، وتتحول إلى وثيقة شعبية حية تسجّل الصوت الجريح للمهمّشين.
أما في مقاطع الغزل والإيروتيكا، فيكشف عقبي عن براعة الشعراء التهاميين في التعبير عن الحب والجسد والرغبة، من خلال لغة رمزية مرهفة، تستخدم عناصر الطبيعة والحيوانات والنباتات والعطور لتصوير العلاقة العاطفية، دون أن تقع في المباشرة أو الابتذال. ويشير إلى أن هذا الاستخدام الرمزي ناتج عن ثقافة بيئية واجتماعية غنية، حيث يُستخدم "الطير"، و"الغصن"، و"الفل"، و"الناي"، كوسائط شعرية وجمالية.
من الموروث إلى التخييل المسرحي
بفضل خلفيته المسرحية والسينمائية، يلتقط حميد عقبي البعد الدرامي في القصائد الشعبية، ويرى فيها بنية مشهدية حافلة بالإيماءات والحوار والصراع. فالشعر الشعبي التهامي – برأيه – ليس فقط غناءً أو عزاءً عاطفيًا، بل نصٌ دراميٌّ يُبنى على المفاجأة والتوتر وتعدد الأصوات، ويحتمل تحويله إلى عروض أدائية معاصرة. وقد اقترح في أكثر من موضع إمكانية تحويل بعض القصائد إلى نصوص مسرحية وسيناريوهات، داعيًا الفنانين إلى استكشاف هذا المنجم الإبداعي المهمل.
جهد فردي مقاوم
يمثّل هذا الكتاب، كما يؤكّد المؤلف، خطوة أولى في مشروع أوسع يهدف إلى توثيق وتحليل التراث التهامي، وفتح باب الدراسات الجادة حول الشعر الشعبي اليمني. في ظل الشلل الذي أصاب المؤسسات الثقافية، وضعف النشر، وغياب النقد، يظهر عقبي كنموذج للمثقف الذي يعمل بإمكانيات فردية، لكن برؤية واضحة وملتزمة.
هو لا يقدّم نفسه كباحث أكاديمي، بل كمبدع يحمل همّ تراث بلده، ويعتبر الكتاب نوعًا من الوفاء الجمالي والروحي لتهامة، وإلى اليمن عمومًا، التي تعيش عزلة مضاعفة: سياسية، وثقافية، ومعرفية.
اعادة الاعتبار للثقافة الشعبية
من الغناء إلى الغضب" هو بيان إبداعي يطالب بإعادة الاعتبار للثقافة الشعبية بوصفها جزءًا حيًّا من هوية الإنسان العربي. هو كتاب للقراء، والنقاد، والمبدعين، والمؤسسات، ولكل من يؤمن أن التراث ليس مجرد ماضٍ غابر، بل ذاكرة حيّة ومصدر مستمر للإلهام والمقاومة.
وفي زمن تتآكل فيه الذاكرة، وتنهار فيه المسافة بين الثقافة والتهميش، يمد حميد عقبي هذا الكتاب كجسرٍ بين الماضي والحاضر، وكبوصلة للعودة إلى ما هو جوهري وأصيل فينا.