الخلط بين الاجتهاد الديني والرأي السياسي
من أبرز مشاكل الجماعات الدينية في العمل السياسي – وهي كثيرة – تلك المتعلقة بعلاقتها بالنقد.
والسياسة بطبيعتها حقل مفتوح للنقد والتمحيص والتجريب والتصويب والتكذيب. وأي رأي سياسي يُفترض به أن يُعرض على النقد، ويُعامل كاحتمال قابل للصواب والخطأ، لا كحقيقة مطلقة! ولا كفتوى دينية من الفقية المعصوم،
هذا هو جوهر العملية السياسية، وبه تتطور الآراء السياسية وتُغربل الخيارات وتُنقّح وتُصوّب الأخطاء.
بهذه الطريقة فقط ترتقي الأمم الديمقراطية وتنقح وتصحح أخطاءها،
لكن الجماعات الدينية عندما تدخل الميدان السياسي فأنها غالبًا ما تنقل معها الثقافة الدينية التي تقوم على التسليم والاتباع، و الفتوى والحصانة، و تحشرها في العمل السياسي البشري،
حيث يُنظر إلى ما يقوله "آية الله" أو "المرشد الأعلى" أو "العالم" أو "السيد" ..إلخ من الآراء السياسية على أنه "الصواب بعينه والحق المنزل!"،
لأنه – في وعي هذه الجماعات – ممزوج بكلام الله أو مستند إلى النص المقدس.
وبالتالي، فإن من يُجرؤ على مراجعة رأي سياسي اتخذه هؤلاء القادة السياسيون المتلحفون بعمائم الدين، أو حتى يطرح نصيحة مختلفة،
تُترجم نصيحته إلى اعتداء على الدين، وكأن هذا الرأي السياسي نص مقدس!
أو أن قائله مفوّض من المولى سبحانه.
فالنصيحة السياسية تتحول إلى جريمة، لأنها تُفهم باعتبارها تطاولًا على قداسة مزعومة، لا اختلافًا طبيعيا ومشروعًا في الرأي.
وهذه هي عين المشكلة و التي تجعل هذه الجماعات تنمو كجسم غريب في البيئة الديمقراطية وانهكت اوطانها و اتعبت أتباعها.
القواعد الجماهيرية لهذه الجماعات تجد صعوبة في التمييز بين ما هو رأي سياسي لقائدهم وما هو اجتهاد ديني لمفتيهم،
وهذا الخلط المقصود من قبل القادة هو رأس مالهم،
فإذا فقدوه فقد فقدوا أطماعهم السياسية الدنيوية المحضة،
كونه مصدر القدرة على تجييش مشاعر الجماهير،
ومن ثم، فإن أي اعتراض أو ملاحظة – ولو بنية الإصلاح – تتحول في وعيهم إلى طعن في المقدسات،
ويتضح هذا من ردود أفعالهم ومشاعرهم الغضبى تجاه الاختلاف السياسي،
والذي هو جوهر السياسة الديمقراطية التي يعشقون الانخراط فيها، ولكن دون فهمها والتقيد بقواعدها.
هذه الجماعات لن تكون صالحة للعمل السياسي ما لم تتخلّ عن فكرة "قداسة الرأي"،
وتقبل أن ما يصدر عنها في مجال السياسة هو اجتهاد بشري يُعرض على النقد، ويُناقش كمجرد رأي، لا كدين منزل.
وإن ثبت هذا الرأي السياسي أمام النقد بقي، أو يُرمى ولا كرامة، مثله مثل أي رأي سياسي آخر.
فإن فعلت هذه الجماعات، فهي قابلة لأن تكون طرفًا سياسيًا طبيعيًا.
وإن أصرّت على إحاطة آراءها بهالة التقديس، فقد دخلت مجالًا لا يناسبها، وزادت أوضاع البلدان خرابًا فوق خرابها.
ومن أراد أن يختبر هذه الحقيقة، فليكتب ملاحظة مهذبة، أو يقدم نصيحة صادقة تجاه رأي اتخذته جماعة دينية، لا اعتراضًا، بل رغبة في الترشيد.
وسيرى كيف تنهال عليه الاتهامات، وكأنه تجرأ على الذات الإلهية أو طعن في القرآن الكريم،
وكأن رأيه ليس مجرد رأي يحاول أن يُصلح عورًا سياسيًا واضحًا وضوح الشموس في كبد السماء.