عصر ما بعد الدولة الفلسطينية وأوهام أوسلو وسيناريوهات البقاء

Author Icon خالد سعيد نزال

يوليو 9, 2025

في فجر السابع من أكتوبر 2023، لم تنهار حدود غزة وحدها، بل انهارت المرتكزات الأخيرة لاتفاق أوسلو الذي وُقع قبل ثلاثة عقود. اليوم، وبعد 22 شهر من الحرب، يتحول السؤال من "كيف نُقيم دولة فلسطينية؟" إلى "هل بقي أي أثر لتلك الدولة المتخيلة؟". هذا التحقيق يعيد تشريح الجثة السياسية لأوسلو في ضوء تحولين جوهريين تحول الضفة الغربية إلى أرخبيل معزول،وتحول السلطة الفلسطينية إلى هيكل وظيفي يخدم الاستمرارية الأمنية للاحتلال.

نهاية عصر أوسلو في ظل حرب الإبادة

في فجر السابع من أكتوبر 2023، لم تكن غزة وحدها في مرمى نيران الآلة العسكرية الإسرائيلية، بل أُطلقت رصاصة الرحمة على فكرة "الدولة الفلسطينية" وفق أوسلو. بينما اجتاحت الدبابات القطاع، كانت جرافات الاحتلال تعيد هندسة الضفة الغربية في صمتٍ مرعب عبر ثلاثية: الضم الزاحف، التهجير المنظم، والتجويف المؤسسي. تقارير الأمم المتحدة تكشف أن 52 ألف دونم صودرت منذ أكتوبر 2023، و14% من مساحة الضفة تحولت إلى معازل استيطانية مغلقة . المشهد هنا لا يحاكي حرباً مفتوحةً فحسب، بل يشبه عملية جراحية باردة تستأصل أي أمل بتواصل جغرافي فلسطيني الضفة الغربية أصبحت مختبراً لتجارب "ما بعد الدولة" – حيث تُختبر تقنيات السيطرة دون تكلفة الحرب المعلنة، بينما تتحول غزة إلى نموذج للإبادة المكثفة.
المحور الجيوسياسي :
■ التحول الجذري: من "عملية سلام" إلى "حرب إبادة"
■الإجراءات الإسرائيلية الممنهجة لإلغاء إمكانية الدولة
●. الاستيطان كأداة تفكيك جغرافي
لم تكن الحرب على غزة سوى الوجه الأكثر دموية للمشروع الإسرائيلي. ففي الضفة الغربية، حوّلت إسرائيل المخيمات الفلسطينية إلى "غزّات مصغرة" كما وصفها سكان مخيمي جنين ونور شمس بعد عمليات "الجدار الحديدي" التي بدأت في يناير 2025 . هنا، لم تعد القوات الإسرائيلية تدخل وتنسحب، بل تبقى داخل المخيمات لأشهر، وتفرض "مناطق عازلة" تمنع عودة 40,000 لاجئ مشرد، بينما تُشرعن البؤر الاستيطانية العشوائية كجزء من خطة لخلق واقع ديموغرافي جديد

استراتيجية التفتيت: من "مناطق أوسلو" إلى "أرخبيل فلسطيني

- نموذج "البانتوستانات
لم يعد تقسيم الضفة إلى مناطق (A, B, C) ليس مجرد ترتيب أمني مؤقت، بل تحول إلى هندسة جيوسياسية دائمة فبينما تسيطر السلطة فلسطينيًا على 165 جزيرة معزولة مناطقيا A وB وتسيطر إسرائيل على طرق الوصول بينها، مما يحول الضفة إلى "جبنة سويسرية" حسب وصف مركز رؤية للتنمية السياسية . هذا النموذج يشبه "بانتوستانات" نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، حيث تُمنح السلطة حكمًا ذاتيًا شكليًا على مساحات متقطعة، بينما تُدار الموارد والحدود من قبل المحتل

- القدس: العاصمة التي تختفي

لم يعد بيت الشرق (المقر السابق لمنظمة التحرير) سوى مبنى مغلق بقفل صدئ في القدس الشرقية، بينما طُردت معظم المؤسسات الفلسطينية من المدينة. اليوم، يعيش 220,000 مستوطن في القدس الشرقية، بينما يُرفض 95% من طلبات تصاريح البناء للفلسطينيين

- الضم الزاحف عبر البؤر الرعوية :

كشف تقرير "السامري الشرير" إنشاء 70 بؤرة استيطانية جديدة منذ 2022، تسيطر الآن على 786 ألف دونم (14% من الضفة) تعتمد هذه الاستراتيجية على ثلاث مراحل : إقامة خيام للمستوطنين، تنفيذ اعتداءات ممنهجة لترهيب السكان، والاستيلاء على الأرض بعد التهجير .

- اختراق المناطق المصنفة "ب / B" :

لأول مرة منذ أوسلو، أنشأت إسرائيل 7 بؤر استيطانية في مناطق الخاضعة إدارياً للسلطة الفلسطينية، باستخدام لافتات تهديدية مثل: "لا مستقبل في فلسطين" في ترمسعيا وعين يبرود (محافظة رام الله ) .

2. التهجير البطيء :

- التطهير العرقي غير المعلن

- تفكيك 60 تجمعاً فلسطينياً منذ أكتوبر 2023، منها 28 تجمعاً بدوياً في الأغوار، حيث حوّلت "المناطق العازلة" 24 ألف دونم إلى معسكرات مغلقة .
- التدمير المنظم للبنى التحتية : هدم 1,238 مبنى فلسطينياً (زيادة 49% عن العامين السابقين)، وتدمير 14,280 شجرة زيتون، وإقامة 872 حاجزاً عسكرياً يعزل القرى عن أراضيها .

المحور السياسي :

3. التجويف المؤسسي :

■تفكيك دولة قبل ولادتها
■ تجميد أموال المقاصة:
احتجاز 140 مليون دولار شهرياً يحرم السلطة من دفع رواتب 60% من موظفيها، مما يفقدها الشرعية الداخلية .
- سحب الصلاحيات التخطيطية :
نقل سلطة التخطيط في المناطق "ب" إلى "الإدارة المدنية" الإسرائيلية، كما في بادية بيت لحم 167 كم².
- السيطرة على التراث الثقافي:
ضم 3,000 موقع أثري فلسطيني إلى سلطة الآثار الإسرائيلية .
4. القوانين التمييزية:

هندسة الأبارتهايد الجديد

 مشروع تسوية الملكية في القدس:

تسجيل 95% من عقارات حي وادي حلوة (سلوان) بأسماء المستوطنين عبر توظيف قوانين "أملاك الغائبين"
- شرعنة البؤر غير القانونية:
تحويل 11 بؤرة استيطانية إلى مستوطنات دائمة، وإصدار "عقود تخصيص مراعي" تمنح المستوطنين السيطرة على 80 ألف دونم .

خاتمة المحور:

الضفة الغربية لم تعد أرضاً بانتظار دولة، بل فضاءً تجريبياً لنموذج سيطرة ما بعد استعماري، حيث تحولت إلى 165 كانتوناً معزولاً ، 41% منها مصنفة "مناطق إطلاق نار"
المحور الاستراتيجي :
التوجهات الدبلوماسية الجديدة وصراع الهيمنة العالمية
الدبلوماسية كسلاح للهيمنة
بينما تدمر جرافات الاحتلال البيوت، تعيد الدبلوماسية الغربية هندسة الخرائط السياسية. المشروع الأمريكي يسعى لتحويل الصراع إلى سلعة في سوق المصالح الإقليمية، بينما يولد من رحم المقاومة نظام دولي جديد.

1. المبادرات الأمريكية : إعادة تدوير الفشل
- اتفاقات الإبراهيمية النسخة 2.0 :

الربط المشروط بين إعمار غزة وتفكيك المقاومة ("العصا أولاً ■ الجزرة ثانياً")، وتحويل السلطة إلى "إدارة مدنية" تكنوقراطية خاضعة للإشراف الأمني الإسرائيلي المباشر .

- السلام كغطاء للضم :

تجاهل القضايا الجوهرية كحق العودة والقدس، والتركيز على "الاستقرار الاقتصادي" كبديل للحل السياسي، مما يكرس نموذج "الاحتلال المريح"

●. تمرد الجنوب العالمي: تحالف لاهاي كبديل
■ عقوبات نوعية :
حظر نقل الأسلحة لإسرائيل إذا انتهكت القانون الدولي، ومنع سفن الوقود والمعدات العسكرية المتجهة إليها .

المقاضاة الدولية:

دعم أوامر المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو وغالانت، وتنفيذ تدابير محكمة العدل الدولية بخصوص غزة .
3. ماليزيا وإندونيسيا: نموذج المقاومة الدبلوماسية
- رفض التطبيع رغم الإغراءات الاقتصادية، والإصرار على ربط أي تعاون بإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة .
- توظيف القوة الناعمة عبر منظمة التعاون الإسلامي لكشف تناقض الغرب بين خطاب حقوق الإنسان وممارساته .
خاتمة المحور: المشروع الأمريكي ليس سوى إعادة تدوير لأوهام "نهاية التاريخ"، لكن الأرضية تغيرت. فتحالف دول الجنوب، وصمود الهوية الفلسطينية، وتهاوي أسطورة التفوق الأخلاقي الغربي، كلها عوامل تُحول دون نجاحه .

المحور الاقتصادي :

●- الأمن الإسرائيلي في عصر التفكيك العربي
●- اقتصاد الحرب اقتصاد يعيش على الموت
في قلب الشرق الأوسط المتشظي، تُشَغِّل إسرائيل ماكينة معقدة تحويل الصراع إلى ربح، وتحويل الخوف إلى سلعة صادرات السلاح الإسرائيلية قفزت إلى 14.7 مليار دولار عام 2024 (بارتفاع 13% عن 2023)
●. تفكيك النسيج العربي: هندسة الفوضى الخلاقة
● تحويل العرب إلى وكلاء غير مباشرين:
● مصر: التنسيق الأمني في سيناء يجعل جيشها شريكاً في حماية الحدود الإسرائيلية.
● دول "التطبيع" : شراء السلاح الإسرائيلي يُموّل آلة الحرب التي تقتل الفلسطينيين (قفزة حصتها من 3% إلى 12% من صادرات السلاح . (
● تمزيق المنطقة إلى "فُسيفساء كيانات متناحرة":
تحويل العراق وسوريا واليمن وليبيا إلى كيانات هشة يضمن عدم قيام تهديد عربي موحد .
●. التناقض الوجودي: ازدهار السلاح مقابل أزمة شرعية

انهيار الأسس الأيديولوجية:

● تراجع دعم يهود العالم (40% لا يرون إسرائيل عنصراً مركزياً في هويتهم) .
● تآكل الشرعية الدولية مع صعود حركات مقاطعة إسرائيل (BDS)
■ وهم الأمن المطلق:
نجاح المقاومة في اختراق التفوق التكنولوجي (الهجمات السيبرانية وإسقاط طائرات F35 يثبت أن الاحتلال لا ينتج أمناً بل ينتج أعداءً جدداً) .

خاتمة المحور: النموذج الإسرائيلي القائم على "اقتصاد

الحرب" يحمل بذور فنائه أخلاقياً (تحويل الجرائم إلى سلعة)، واقتصادياً (اعتماد الاقتصاد على حروب لا تنتهي)، واستراتيجياً (إنتاج مقاومة أكثر ذكاءً) .
تفكيك وهم الدولتين: أربعة أدلة قاطعة
الجغرافيا السياسية لجثة أوسلو
لم يعد السؤال "هل بقي شيء من دولة أوسلو؟" بل "كيف يُعاد تخيل المشروع التحرري في عصر ما بعد الدولة ؟" الواقع يؤكد أن الضفة وقطاع غزة أصبحا مختبراً للأبارتهايد الحديث.

1. الشرط الجغرافي الميت

- المستوطنات والطرق الالتفافية قسمت الضفة إلى 3 كتل رئيسية غير متصلة (شمال/وسط/جنوب)، مما ينتهك شرط "تواصل الدولة" الذي تطلبه حتى إسرائيل في سيناريوها الدعائي

2. السيادة الشبحية

- إسرائيل تسيطر على 80% من واردات الضفة، وتمنع المطارات والموانئ، وتجمد أموال المقاصة الدولة بلا موارد أو حدود ليست دولة .

3. الشرعية المنهوبة

- غياب الانتخابات منذ 2006، وتحول السلطة إلى "حراس بوابة" للاحتلال بعد انهيار التنسيق الأمني واقتحام مناطق " أ" A /

4. المشروع الصهيوني المتصلب

- تصريح نتنياهو:
"لن نسمح بوجود دولة فلسطينية" ليس شعاراً بل سياسة عملية، تعززها خطة "ألون بلس" المعدلة لضم الضفة 14 وزيراً في حكومته وقعوا على مذكرة تطالب بالضم الفوري .
الخلاصة :
الدولة الفلسطينية وفق أوسلو تواجه أزمة وجودية، لكن الاعتراف ب ـ138 دولة فلسطينية (قرار الأمم المتحدة 2024) يثبت شرعيتها الدولية . الرهان الآن على ثلاث أدوات:

1. المقاومة القانونية:

نجاح جنوب أفريقيا في مقاضاة إسرائيل بجريمة الإبادة يفتح باب المحاسبة التاريخية.

2. الصمود الشعبي :

ائتلافات حماية الأراضي في الأغوار كمثال لمقاومة مدنية تُبطئ التهجير.

3. التمرد الداخلي الإسرائيلي:

احتجاجات 2025 ضد الخسائر البشرية في غزة تكشف هشاشة "جيش الشعب" مشكلة الفلسطينيين ليست في غياب الدولة، بل في *استعصاء التحرر على نموذج الدولة الغربية* في ظل مشروع استعماري حديث. الحل لا يكون باستنساخ نموذج أوسلو، بل بابتكار صيغة تحرر تتجاوز "الدولة" التقليدية.

- خاتمة لابد منها :

إسرائيل تدفن أوسلو بجرافاتها، لكنها تدفن معها شرعيتها. التاريخ لا يرحم من يحوّل الدماء إلى سلعة، والأرض إلى سوق عقارات. الجمر الفلسطيني تحت الرماد لا يزال قادراً على إحراق كل مشاريع الهيمنة
الضفة قد تكون جثة سياسية، لكنها جثة تختزن في ثناياها بذور مستقبلٍ يرفض أن يكون نسخةً من ماضٍ فاشل. هنا حيث يبدأ التاريخ من جديد.

باحث في الشؤون السياسية والاستراتيجية

زر الذهاب إلى الأعلى